أخبرتني أمي أن جدي في سكرات موته لما كانوا يلقنونه الشهادة كان يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن بعد اعتبرته كافرا، لا أترحم عليه، ولا أذكر اسمه بعد اسم والدي رحمه الله تعالى، فهل آثم على ذلك؟
وهل هذا التكفير صحيح أم خاطئ؟ وإذا اعتبر كافرا فهل يجوز التسمية باسم الجد إذا كان كافرا، أو أخذ الميراث؟
الحمد لله.
أولا:
الأصلُ في المسلمِ بقاؤه على حكمِ الإسلام حتى يثبت ما ينقلُه عنه ، ولا يجوز الحكمُ بالكفر على المسلم الذي ثبت وعُلم إيمانه بمجرد الأمور المحتملة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (12/501) : " ومَن ثبت إيمانُه بيقينٍ لم يزُلْ ذلك عنه بالشكّ " انتهى .
وقال ابنُ عابدين في منظومةِ عقود رسم المفتي:
( وكلُّ قولٍ جاء ينفي الْكُفرا عنْ مسلمٍ -ولو ضعيفًا – أَحْرى )
ثم وضّح معناه في شرحه (ص: 96) بقول بعضِ العلماء : "والذي تحرّر أنه -أي المفتي- لا يفتي بكفرِ مسلمٍ أمكن حملُ كلامِه على محملٍ حسنٍ ، أو كان في كفرِه اختلافٌ ، ولو روايةً ضعيفةً " .
وعليه فالأصلُ أن يُحمَل ما يصدر مِن المسلم في حال الاحتضار مِن كلماتِ الكفر على أنها صدرت منه حالَ الغلبةِ على عقله وزوالِ الإدراك وعدم الوعي ، ومعلومٌ أنّ زائلَ العقل غيرُ مؤاخَذٍ بما يصدر عنه.
قال الكمال ابن الهُمام الحنفي في كتابه "فتح القدير" (2/105) : " قالوا: وإذا ظهر منه كلماتٌ توجب الكفر لا يُحكَم بكفرِه ، ويعامل معاملة موتى المسلمين ؛ حملًا على أنه في حالِ زوال عقلِه " انتهى .
ونقل كلامَه متابِعًا له : ابنُ نُجيم في "البحر الرائق" (2/184) ، وأصحاب الفتاوى الهندية (1/157).
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 79) : " وإذا ظهرت مِن المحتضر كلماتٌ توجب الكفرَ لا يُحكم بكفرِه ، ويُعامَل معاملة موتى المسلمين ".
وعليه فيجوز الترحمُ عليه ، ويثبت التوارثُ بينه وبين ورثتِه المسلمين ، ويُزار قبرُه للدعاءِ والاستغفار له .
وأما إذا حصل التأكد أنّ المحتضرَ كان في كامل وعيِه لما يُقال له بحيث يَفهم الخطابَ ويردُّ الجوابَ ، ولم يكن ذلك متصلًا بشدة نزع الروح في آخر لحظات عمرِه ، وأيضًا وقع التأكدُ مِن صدور تلك الكلمات القبيحة منه بلا احتمال للوهم بأن يكون مثلًا سمعها منه كلُّ مَن كان حاضرًا وقتَ احتضاره ، ولم يكن هناك احتمالٌ في الكلام ألا يكون سبًّا أو احتمال وجود التحامل في الخبر كما لو انفردت والدتُك بالنقل وكان بينها وبين جدك شيءٌ مِن العداوة ، لا سيما إذا تكرر ذلك منه قبل موتِه مرات في أوقات متباعدة أو كان معروفًا به سابقًا في حياته قبل الاحتضار فحينئذ يمكن الحكم بكفره والخروج عن الملة ، ويُترك الترحمُ عليه .
ثانيا:
أما التسمية باسم الآباء الكفار فلا مانع منه ، وثبوتُ الردة والكفر وعدم الإسلام لا يمنع مِن ثبوت النسبِ ، والصحابةُ رضي الله عنهم الذين دخلوا في الإسلام لم ينتفُوا مِن آبائهم ، ولا أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك ، وما زال أولئك الصحابة يُنسبون إلى آبائهم وأجدادهم الذين لم يدخلوا في الإسلام إلى اليوم.
بل ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال يوم حُنين : (أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ) رواه البخاري (2864) ومسلم (1776). ومعلومٌ أنّ جدّه كان على دينِ قومِه .
ويدلُّ لهذا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرض على عمِّه أبي طالب أن يقول لا إله إلا الله ، قال له أبو جهلٍ ومَن معه : (أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ ) ، فكان آخر ما قاله : ( هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) رواه البخاري (1360) ومسلم (24) ، وكانت وفاة جدّ النبي عليه الصلاة والسلام في طفولتِه .
ثالثا:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسلم لا يرث المرتد؛ لما روى البخاري (6764) ومسلم (1614) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ).
وعليه؛ ففي الحال التي تثبت فيها ردته يكون ماله لبيت المال، أي يصرف في المصالح العامة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لوارثه المسلم. وهو قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبدالله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، كما حكاه عنهم ابن القيم رحمه الله، وقال: " وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قالوا: نرثهم ولا يرثوننا ، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/853).
ويقوى هذا القول: إذا لم يكن بيت المال منتظما؛ فيوضع المال فيه من مأخذه الشرعي، ويصرف في محله الصحيح.
وأولى من ذلك: إذا كان في بلاد الكفر، أو التي لا يوجد فيها بيت مال للمسلمين، ولا نظر إلى شرع الله، وقسمة المال بين عباده.
والله أعلم.