الحمد لله.
أولًا:
الذي يتكلم عنه هنا في هذه الواقعة هو ما يسميه العلماء: النسخ.
وقد أجمعت الأمة على جواز النسخ ووقوعه في هذه الشريعة. انظر: "روضة الناظر" (1/200)
ومن الأدلة على ذلك:
١- قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء ويُثبِتُ الرعد/39.
۲ - وقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو نُنسها نأتِ بخيرٍ منها أو مِثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير البقرة/106.
٣- وقوع النسخ. فمن ذلك تحويل القبلة إلى الكعبة عن بیت المقدس، ونسخ العدة بأربعة أشهر وعشر للحول، ونسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفار إلى مصابرة الاثنين. انظر: "تفسير ابن كثير" (1/156).
ثانيًا:
لهذا النسخ حكم منها:
1- الرحمة لخلقه والتخفيف عنهم والتوسعة عليهم، كما قال تعالى: يُريدُ اللهُ أن يُخفف عنكم النساء/28، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأثقل بالأخف، مثل نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الأنفال/65، بمصابرة المسلم اثنين من الكفار المنصوص عليه في قوله تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الأنفال/66.
2- تكثير الأجر للمؤمنين وتعظيمه لهم، كما قال تعالى: إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر/10، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأخف بالأثقل، كنسخ التخيير بين الصوم والإطعام في قوله تعالى: وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين البقرة/184، بتعيين إيجاب الصوم في قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه البقرة/185.
3- أن يكون النسخ مستلزمًا لحكمة خارجة عن ذاته، وذلك فيما إذا كان الناسخ مماثلًا للمنسوخ، کنسخ استقبال بیت المقدس باستقبال بیت الله الحرام وهما جهتان كلتاهما تُماثل الأخرى ولا فرق بينهما في حدِّ ذاتيهما، إلا أن الناسخ الذي هو استقبال بیت الله الحرام يستلزم حكمة بالغة وهي دفع حجة اليهود وحجة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم.
فاليهود يحتجون عليه بقولهم: تعیب دیننا وتصلي لقبلتنا، ويحتجون أيضًا بأن عندهم في كتابهم أنه صلى الله عليه وسلم يؤمر باستقبال بیت المقدس ثم يحوِّل إلى بیت الله الحرام.
والمشركون يقولون: تدعي أنك على ملّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتصلي لغير قبلته، وقد أشار الله سبحانه إلى هذه الحِكَم بقوله: لئلا يكون للناس عليكم حُجة البقرة/150.
ومن الحِكَم في ذلك أيضًا تمييز قوي الإيمان من ضعیفه، كما قال سبحانه: وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول مِمَّن ينقلبُ على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله البقرة/143.
4- الامتحان بكمال الانقيادِ، والابتلاءُ بالمبادرة إلى الامتثال، وذلك فيما إذا أمَرَ اللهُ عبْده بأمرٍ فامتثله ثم أَمَرَه بنقيض ذلك الأمر فامتثله أيضًا، فيكون هذا دليلًا على كمال الانقياد والاستسلام.
وتتضح هذه الحكمة في نسخ الأمر قبل التمكن من فِعْله، وذلك مثل أَمْر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه ثم نَسَخَ اللهُ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظیم قبل أن يتمكن من الفعل، والحكمة من ذلك الابتلاء، قال تعالى: إن هذا لهو البلاء المُبين الصافات/106.
فابتلى اللهُ نبيَّه في محبته له سبحانه وتقديمها على محبته لابنه حتى تتمَّ خلته، فكان المقصود الابتلاء لا نفس الفعل؛ لأن الله لا يأمر بفعلٍ لا مصلحة ولا منفعة ولا حكمة فيه، بل أوامره سبحانه ونواهيه وجميع شرائعه مبنية على حِكَمٍ ومصالحَ ومنافعَ كما سبق بيان ذلك.
فالحكمة هنا ناشئة من نفس الأمر، والمصلحة حاصلة به، أما الفعل فلا مصلحة فيه البتة، لذلك كان المقصود من الأمر الحكمة منه وهي الابتلاء دون الفعل.
وحاصل القول في الحكمة من النسخ:
* أن الناسخ خير من المنسوخ كما قال تعالى: ما ننسخ من آية أو نُنسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها البقرة/106
فالناسخ خير سواء كان هو الأخف أو الأثقل أو كان مساويًا للمنسوخ.
* وأن أوامر الله ونواهيه مشتملة على الحِكَم والمصالح، فإذا انتهت الحكمة والمصلحة من الخطاب الأول وصارت في غيره، أمر جل وعلا بترك الأول الذي زالت حكمته، والأخذِ بالخطاب الجديد المشتمل على الحكمة الآن.
فالمنسوخ -وقت العمل به- كانت فيه المصلحة والحكمة، والناسخُ هو المشتمل على الحكمة والمصلحة بعد النسخ. انظر: "رحلة الحج" (61).
ثالثا:
لو طبقنا ما تقدم على الواقعة موضع السؤال سنرى أن مآل الحكم في علم الله، إلى إعفاء أمثال ابن أم مكتوم، ولكن نزل الحكم على صورته الأولى، وتم نسخه بعد سؤال ابن أم مكتوم، ليظهر فضل الله وتخفيفه على الناس، فالله عندما يقول: يُريدُ اللهُ أن يُخفف عنكم؛ فإن إرادة التخفيف هذه لابد أن تظهر للناس بصورة عملية تطبيقية تفصيلية، مثل واقعة ابن أم مكتوم وغيرها.
رابعًا:
من أين علمنا أن الحكم نزل على صورة معينة ثم تم نسخه بعد سؤال ابن أم مكتوم؟
الجواب: عن طريق السنة النبوية ونقلة الأخبار عن صحابة رسول الله ثم عن رسول الله.
السؤال الآن: لو كان القرآن بشريًا هل كان من المنطقي أن تنقل هذه التفاصيل والمراحل للحكم، أم يكتفي الرسول والصحابة بنقل الحكم النهائي وحذف أي شيء سابق عليه كي لا يقع التشكك في النفوس؟
الجواب: كانوا سيقومون بعملية تنقيحية تحذف المراحل السابقة وتكتفي بالشكل النهائي كما نراه في كثير من تواريخ الأمم.
لكن الواقع أن مراحل الحكم كلها تم نقلها، لأنه لا يوجد لدينا شيء نخجل منه، فكلها مراحل مقصودة لحكمة الله البالغة، ولو كان هذا صنعا بشريا، لحذف هذا البشري كل ما يورد الإشكال عليه.
وهذه قاعدة عامة في الشبه كلها، أن طريق معرفتنا بالشبهة إن كان هو نفس الأحاديث والأخبار، فمعنى هذا وجود وجه معقول لفهم الواقعة، لأنه لو كان فيها ما لا جواب عليه، ويشكك في صدق الرسول، فالرسول غير الصادق (معاذ الله) لن ينقل لنا هو وأصحابه ما يجعلنا نرتاب فيه.
والله أعلم.