الحمد لله.
أولًا:
(البشر) في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] : لفظ عامٌّ، محفوظ؛ يشمل الأنبياء وغيرهم. وهذا ظاهر لا خفاء به، ولا إشكال فيه.
والعموم يفهم من نصوص العلماء التالية:
قال "الطبري": "قوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [الشورى: 51].
يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لبشر من بني آدم، أن يكلمه ربه إلا وحيا يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهامًا، وإما غيره.
أو من وراء حجاب [الشورى: 51] يقول: أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه صلى الله عليه وسلم.
أو يرسل رسولا [الشورى: 51] يقول: أو يرسل الله من ملائكته رسولًا، إما جبرائيل، وإما غيره فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51]، يقول: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني: ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذلك من الرسالة والوحي"، انتهى.
"تفسير الطبري" (20/ 540).
قال الراغب الأصفهاني: ".. وذلك إما برسول مشاهد تُرى ذاته ويُسمع كلامه، كتبليغ جبريل عليه السلام للنبي في صورة معينة، وإما بسماع كلامٍ من غير معاينة، كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاء في الرُّوع، كما ذكر عليه الصلاة والسلام: (إنَّ روح القدس نفث في رُوعي)، وإمّا بإلهام، نحو: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص: 7] ، وإما بتسخير نحو قوله: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل/ 68]، أو بمنام ...
فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله: (إِلَّا وَحْيًا) [الشورى: 51]"، انتهى.
"المفردات في غريب القرآن" (859). وينظر أيضا: "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/ 143).
وممن نص على عمومه، ولخص الكلام في أنواعه الإمام "ابن جزي"، فقال في تفسير الآية الكريمة المذكورة، من سورة "الشورى":
" بيّن الله تعالى فيها كلامه لعباده، وجعله على ثلاثة أوجه:
أحدها: الوحي المذكور أولًا، وهو الذي يكون بإلهام أو منام.
والآخر: أن يُسْمِعَه كلامه من وراء حجاب.
الثالث: الوحي بواسطة الملك، وهو قوله: (أو يرسل رسولًا)، يعني ملكًا، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي. وهذا خاصٌّ بالأنبياء.
والثاني: خاصٌّ بموسى وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كلمه الله ليلة الإسراء.
وأما الأول: فيكون للأنبياء والأولياء كثيرًا، وقد يكون لسائر الخلق ومنه: (وأوحى ربك إلى النحل)، ومنه: منامات الناس"، انتهى من "تفسير ابن جزي"(2/ 252).
ثانيا:
الوحي نوعان:
الأول: وحي خاص، وهو إرسال الرسول من الملائكة لنبي أو رسول.
الثاني: الوحي العام، وهو الذي وقع لبعض الأولياء، ووقع للملائكة، ووقع لبعض المخلوقات، ويكون بالإلهام، والرؤيا، ونحو ذلك.
قال "شيخ الإسلام": "وليس كل من أوحي إليه الوحي العام يكون نبيًّا؛ فإنه قد يوحى إلى غير الناس" انتهى من "النبوات": (2/ 690).
وقال: "وكذلك لفظ الوحي قد يكون عامًّا"، وقال: "والوحي العام الذي هو لآحاد العباد"، "مجموعة المسائل": (3/ 96).
وقد قال "ابن فارس": "الواو والحاء والحرف المعتل أصل يدل على إلقاء علم في خفاءٍ، أو غيره إلى غيرك. فالوحي: الإشارة، والوحي: الكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى عَلِمَهُ فهو وحي؛ كيف كان …"، انتهى.
"مقاييس اللغة"، مادة (وحى).
وإذا قيل إن المراد بهذا النفي في أصله: "الأنبياء"، وأن معناه: أن الله تعالى لا يكلم أحدا من أنبيائه، إلا على واحد من هذه الوجوه؛ كان من البين الواضح: أن غيرهم من البشر، ممن لم يبلغوا درجتهم، إما أنهم لا يكلمون أصلا، وهذا إذا لم ندخل الإلهام والفراسة ونحو ذلك في معنى "الكلام" المنفي في الآية، وأن الكلام هو ما كان بصوت، ولفظ؛ فهذا خاص بالأنبياء، بلا إشكال.
أو يقال: إنهم لا يكلمون بوجه آخر من الوجوه التي يُكَلَّم عليها الأنبياءُ، وهذا ظاهر؛ فإنه إذا نفي وجه آخر من وجوه المكالمة عن الأنبياء، فنفيه عمن كان أقل درجة مطلقا، وأقل درجة في الإيمان والولاية، وأقل درجة في "التكليم"؛ أولى، وأظهر.
ومعلوم أن أعظم خصائص الأنبياء: هي الوحي من الله تعالى على الوجه الخاص بهم، وأنهم أعلى وأجل في مقام التكليم من غيرهم.
قال "ابن تيمية": "وقوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَاّ وَحْيَاً؛ يتناول وحي الأنبياء وغيرهم؛ كالمحدّثين الملهمين"، انتهى من "النبوات" لابن تيمية: (2/ 691).
والله أعلم.