الحمد لله.
أولًا:
ينبغي للمسلم أن يصون نفسه فلا يعرض نفسه للاستماع لأهل الأهواء والبدع فلربما وقعت في قلبه شبهة أضرته، وكان من هدي السلف النهي عن مثل ذلك.
كان أبو قلابة رحمه الله يقول: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم".
وقال أبو إسحاق الهمداني: "من وقَّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام".
ودخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا: يا أبا بكر نحدثك، قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل، قال: لا، لتقومُنَّ عني، أو لأقومَنَّه" فقام الرجلان فخرجا.
وقال الفضيل بن عياض: "لا تجلس مع صاحب بدعة؛ فإني أخاف أن ينزل عليك اللعنة".
وقال محمد بن النضر الحارثي: "من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم أنه صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه".
وقال عبد الرزاق الصنعاني الإمام: قال: قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: "إني أرى المعتزلة عندكم كثيرا. قلت: نعم، وهم يزعمون أنك منهم. قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك؟ قلت: لا. قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، وإن الدين ليس لمن غَلب".
وانظر هذه الآثار في "الشريعة للآجري"، و"أصول اعتقاد أهل السنة" لللالكائي.
ثانيًا:
بخصوص رواية البخاري عن عمران بن حطان، فننقل هنا ما قاله د. نبيل بلهي، قال:
"قد أكثر أعداء البخاري من الطعن فيه بسبب إخراجه في صحيحه لعمران بن حطان الخارجي، وزعموا أن البخاري ارتكب جرمًا شنيعًا لا يغتفر، إذ شرَّف هذا الخارجي الداعية، الذي مدح قاتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأبدى سروره بتلك الجريمة، ونسبه بعضهم إلى تعمد الإساءة إلى علي بن أبي طالب وأهل البيت عموما -رضي الله عنهم أجمعين-، كقول صاحب "كشف المتواري في صحيح البخاري" (3/38): "عمران بن حطان كان من المبغضين للإمام، وكيف بالبخاري يروي في صحيحه عن هذا الخارجي؟! ألا يدلنا أن جميع هؤلاء من المبغضين للإمام؟!".
وفي هذه الأسطر أبين العذر العلمي، والمسوغ الموضوعي، لإخراج البخاري لحديث من طريق هذا الرجل المبتدع، وأوضح أنها قضية علمية تتعلق بالصناعة الإسنادية لا غير.
أولا) ذهب بعض أهل العلم إلى أن البخاري روى عن عمران بعد توبته من بدعة الخروج، فقد ذكر بعض أهل التاريخ أنه تاب من بدعته، ومعلوم أن من تاب من كفره ثم أدى الحديث يقبل منه، فكيف بمن تاب من البدعة، فيقبل منه الأداء من باب أولى؛ لأن العدالة شرط في الأداء وليس في التحمل.
قال ابن حجر في "الإصابة" (5/233): "واعتذروا عنه بأنه إنما أخرج عنه لكونه تاب، فقد ذكر المعافى في تاريخ الموصل، عن محمد بن بشر العبدي، قال: ما مات عمران بن حطان حتى رجع عن رأي الخوارج".
وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (8/128): "هذا أحسن ما يعتذر به عن تخريج البخاري له".
وأشار إلى هذا العذر ذهبي العصر عبد الرحمن المعلمي في "التنكيل" (2/654)، فقال: "وأما عمران وحَريز: فقد اتفق أهل العلم على أنهما أصدق الناس في الرواية، وقد جاء أنهما رجعا عن بدعتيهما".
وذكر بعض أهل العلم أن البخاري روى له ما تحمله قبل ركوبه مذهب الخوارج، ولكنه اعتذار ضعيف، قال ابن حجر في "هدي الساري" (ص433): "ورأيت بعض الأئمة يزعم أن البخاري إنما أخرج له ما حمل عنه قبل أن يرى رأي الخوارج، وليس ذلك باعتذار قوي؛ لأن يحيى بن أبي كثير إنما سمع منه باليمامة، في حال هروبه من الحجاج".
ثانيًا) أخرج البخاري لعمران بن حطان حديثين؛ لأنه متأكد من صدقه في ذينك الحديثين، جريًا على قاعدته في الرواية عن المبتدعة جميعًا، وهي اعتبار صدق اللهجة، لذلك أخرج عن جمع من أهل البدع، وفيهم الغلاة والدعاة إلى بدعتهم، وليس تزكية لهم، ولا إقرارً لبدعتهم، ولكن لمصلحة وغرض علمي، قال ابن حجر في "انتقاض الاعتراض" (2/532): "وإنما أخرج له البخاري، على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع؛ إذا كان صادق اللهجة في الرواية متدينًا".
وقد شهد النقاد بصدق لهجته، فهذا تلميذه قتادة يقول: "كان عمران بن حطان لا يُتَّهم في الحديث" "تهذيب الكمال" (22/322).
فاحتمال الكذب هنا منتفٍ؛ لأن الخوارج يكفرون بكبيرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُتصور أن يقعوا فيه، قال الإمام أبو داود: "ليس في أهل الأهواء أصح حديثًا من الخوارج"، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسَّان الأعرج. "تهذيب الكمال" (22/322).
ولا يعني هذا أن البخاري يقر عمران بن حطان على مدحه قاتل علي بن أبي طالب، فقد أخرج لـ: عباد بن يعقوب الرَّوَجِني، وكان من الغلاة في علي بن أبي طالب، يزعم أنه هو الذي حفر البحر، وكان يشتم ذا النورين عثمان بن عفان، وكان يقول: الله أعدل من أن يدخل طلحة والزبير الجنة. ينظر: "تهيب الكمال" (14/78-79).
فيلزم على هذا أن يقال إن البخاري ممن غلوا في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ويقدح في الصحابة المبشرين بالجنة؛ لأنه أخرج لعباد بن يعقوب.
والصواب: أن البخاري يريد متن الحديث، فإن صح له رواية هذا التابعي الخارجي أخرجه، وإذا صح له من طريق هذا الغالي في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أخرجه كذلك، وهذه هي الموضوعية العلمية.
ثالثًا) إخراج البخاري لحديث عمران بن حطان الخارجي، كان لغرض علمي يتعلق بالصنعة الإسنادية، وهذا الغرض هو إثبات سماع عمران بن حطان من عائشة، وإثبات السماع شيء يحرص عليه المحدثون، وقد شكك بعضهم في هذا السماع، يقول العقيلي في "الضعفاء" (3/297): "عمران بن حطان عن عائشة، ولا يُتابع على حديثه، وكان يرى رأي الخوارح، ولا يتبين سماعه من عائشة".
وقد أشار ابن حجر إلى هذه الفائدة في "الإصابة" (5/234) حيث قال: "لأن في الحديث الذي أخرجه البخاري تصريحه بالسماع منها". ونص على ذلك البخاري في ترجمة عمران في تاريخه الكبير (6/413)، قال: "سمع من عائشة".
رابعًا) اعتذر بعض أهل العلم بأن البخاري أخرج لعمران بن حطان في المتابعات لا في الأصول، قال ابن التين: "هو خارجي، وإنما أدخله البخاري في المتابعة لا في الأصول" "التوضيح" (27/675).
وقال ابن حجر في "هدي الساري" (ص433): "وهذا الحديث إنما أخرجه في المتابعات، فللحديث عنده طرق غير هذه من رواية عمر وغيره". وقال كذلك: "فلا يضر التخريج عمن هذا سبيله في المتابعات".
قلت: المقصود أن البخاري يعلم أن عمران بن حطان قد توبع على حديثه، فلا خوف من تأثير بدعته على روايته، وإلا فإن البخاري أخرج لعمران في موضعين فقط (5835) (5952)، وليس في المتابعات، والحديثان اللذان أخرجهما البخاري عنه ليسا مما يؤيد بدعته، أو يشير إليها من قريب أو بعيد.
والخلاصة:
أن إخراج البخاري لحديث في إسناده (عمران بن حطان الخارجي) كان لغرض علمي موضوعي، لا علاقة له بمدح الخوارح، ولا الإشادة بذم الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، كيف يكون ذلك وهو الذي بوب في صحيحه (5/18): "باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه" ثم ساق الأحاديث والأخبار في فضائله.
ويؤيد ذلك أن الإمام النسائي أبا عبد الرحمن، صاحب كتاب "خصائص علي بن أبي طالب" المنافح بقوة عنه، حتى نُسب إلى التشيع، أخرج حديث عمران في سننه (5306) كما أخرجه الإمام البخاري، ولا يستطيع أحد أن يطعن في موالاة الإمام النسائي للصحابي علي بن أبي طالب، كما لا يستطيع أحد أن يطعن في محبة الإمام البخاري لعلي بن أبي طالب وتعظيمه له، كيف يكون ذلك والبخاري بوب على فضائل علي بن أبي طالب، بقوله (5/18): "باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه" وأورد تحته سبعة أحاديث في مناقبه وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
وبوب كذلك في صحيحه (5/25): "باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنقبة فاطمة -عليها السلام- بنت النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرج تحته أحاديث وآثارًا في تعظيم حق أهل البيت، وبيان فضل فاطمة -رضي الله عنها-، وذكر من بين ذلك أثر أبي بكر الصديق (3712): "والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي".
وبهذا برئت ساحة الإمام البخاري من الطعن في الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمجرد إخراجه لحديث عمران بن حطان، ورجع الأمر إلى المسوغات العلمية التي سبق ذكرها، وبطل ظن المتخرصين والمتربصين، والحمد لله رب العالمين" انتهى، من مقال بعنوان: "البيان لعذر الإمام البخاري في إخراجه لعمران بن حطان".
رابعًا:
لم يرو البخاري عن أحد ممن يسبون أبا بكر رضي الله عنه، ولم يرو عن الرافضة شيئًا، وقد بينا هذا في جواب السؤال رقم: (120667).
والله أعلم.