الحمد لله.
أولًا:
لا حرج في تغيير الإنسان اسمَه "الشخصي" إلى اسمٍ آخر حسنٍ أو مباحٍ، خاصةً إذا وجدت الحاجة إلى ذلك، كأن يكون الاسمُ الأول مكروهًا، أو معناه في اللغة الأخرى غير مناسب أو قبيح، أو ليتجنب تمييزًا عنصريًا قائمًا، أو ليسهل عليه الاندماج في المجتمع الذي هو فيه.
وقد بوب الإمام البخاري في "صحيحه" (8/43): "باب تحويل الاسم إلى اسمٍ أحسنَ منه"، وذكر فيه بعضَ الأحاديث الواردة في تغيير النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بعض الصحابة، وهي كثيرة ومشهورة.
قال ابن القيم رحمه الله في "تحفة المودود" (ص133): "وكما أنَّ تغيير الاسم يكون لقُبحه وكراهته، فقد يكون لمصلحة أخرى مع حُسنِه".
ثانيًا:
للناس طرائقُ مختلفةٌ ومتعدّدةٌ في نِسبة أنفسهم والتعريف بها، وأشهرها: النَّسب الولادي، والبلادي، والصناعي، والوصفي، والمذهبي.
والنسب الولادي: أن ينتسب الإنسان إلى قبيلته وعشيرته، مثل: الهاشمي، والتميمي، والخزرجي، والغطفاني.
والنسب البلادي: أن ينتسب إلى إقليمٍ أو مدينةٍ أو بلدةٍ أو قريةٍ ونحو ذلك مِن المناطق، كـ: الدمشقي، والحلبي، والخليلي، والصنعاني، والبغدادي، والكوفي، والمغربي، والإشبيلي، والقرطبي، ونحو ذلك.
والنسب الصناعي: الانتساب إلى حِرفة وصناعة أو عمل من الأعمال، كـ: الزَّجّاج، والزيَّات، والبقَّال، والخيَّاط.
والنسب المذهبي: الانتساب لما عليه الإنسان من مذهب عقائدي، كـ: المعتزلي، والإباضي، والزيدي، والصوفي، والأشعري، أو مذهب فقهي: كالحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والظاهري.
والنسب الوصفي أو اللّقَبي: الانتساب لوصفٍ أو لقبٍ عُرف به أو أحدُ آبائه أو أجداده، كـ: الطويل، والقصير، والأحول، والأعمش.
قال الخطابي: "والأنساب على وجوه: نسبٌ ولاديٌّ، ونسبٌ بلاديٌّ، ونسبٌ من جهة الدين اعتقاديٌّ، ونسبٌ صناعيٌّ"، انتهى من "أعلام الحديث" (3/1759).
وكذا ذكر السمعاني في كتابه "الأنساب" (1/4) أن النسب يكون إلى قبيلةٍ، أو بطنٍ، أو ولاءٍ، أو بلدةٍ، أو قريةٍ، أو جَدٍّ، أو حِرفةٍ، أو لقبٍ لبعض أجداده، وقال: "فإنَّ الأنساب لا تخلو عن واحد من هذه الأشياء".
وقال الفيومي: "ويُنسَب إلى ما يوضِّح ويميِّز من: أبٍ، وأمٍّ، وحيٍّ، وقَبيلٍ، وبلدٍ، وصناعةٍ، وغير ذلك". انتهى من "المصباح المنير" (2/602)
وكان الشائع عند العرب النسب الولادي، حتى لا يكادون يعرفون غيره، فلما اختلطوا بالأعاجم بعد الإسلام شاعت بينهم النِّسب الأخرى.
قال ابن الصلاح: "وقد كانت العرب إنما تنتسب إلى قبائلها، فلما جاء الإسلام، وغلب عليهم سكنى القرى والمدائن، حدث فيما بينهم الانتساب إلى الأوطان كما كانت العجم تنتسب، وأضاع كثيرٌ منهم أنسابَهم، فلم يبق لهم غيرُ الانتساب إلى أوطانهم". انتهى من "معرفة أنواع علوم الحديث" (ص404)
وقد عُنيت العرب بضبط أنسابها، حتى إذا كثر أهل الإسلام واختلطت أنسابهم بالأعاجم تعذَّر ضبطُها بالآباء، "فانتسب كلُّ مجهول النَّسب إلى بلدِه أو حرفته أو نحو ذلك، حتى غلب هذا النوع"، كما قال حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/178).
ثالثًا:
مِن كبائر الذنوب: أن يتبرأ الإنسان مِن نسبه الولادي، فينفي نسبَه لأبيه وعائلته وقبيلته، وينسب نفسَه إلى شخصٍ آخر يدَّعي أبوّته أو قبيلةٍ لا تمت له بصلةٍ يدّعي نسبَها، وهو يعلم أن هذا خلافُ الحقيقية.
وقد جاءت النصوص الشرعية آمرةً بالانتساب للأب الحقيقي، كما قال تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ).
وتوعَّدت مَن انتفى مِن نسبِه لأبيه وقبيلته أشدَّ الوعيد:
1-فهو مِن شعب الكفر: فعن أبي ذرٍّ رضي اللَّهُ عنه: أنَّه سمع النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، متفق عليه.
وعن أبي هريرة، عن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ)، متفق عليه.
والمراد بالكفر ههنا: الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
2-ومِن أعظم الكذب والافتراء: فعن واثلة بن الأسقع رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى: أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُول عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ)، رواه البخاري.
3-والجنة محرّمةٌ على مَن يفعل ذلك: فعن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّهُ عنه قال: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ: فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ)، متفق عليه.
4-وهو مستحقٌّ للعنة الله تعالى: فعن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا)، رواه مسلم.
فهذه النصوص صريحةٌ في تحريم تغيير النسب الولادي والتلاعب به، وأنه من كبائر الذنوب؛ لما في ذلك من الكذب والزور، واختلاط الأنساب، والخطر على الأعراض، وتغيير مجرى المواريث بحرمان المستحق وإعطاء غيره، وإحلال الحرام وتحريم الحلال في الخلوة والنكاح.
قال النووي: "هذا صريحٌ في غِلَظِ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه...؛ لما فيه مِن كفر النِّعمة، وتضييع حقوق الإرث، والولاء، والعَقل -الديات-، وغير ذلك، مع ما فيه مِن قطيعة الرحم والعقوق"، انتهى من "شرح صحيح مسلم" (9/144).
وقال ابن دقيق العيد: " يَدُلُّ على تحريمِ الانتفاء مِن النَّسَبِ المعروف، والاعتزاء إلى نَسَب غيرهِ، ولا شكَّ أنَّ ذلك كبيرةٌ، لما يتعلَّق به مِن المفاسد العظيمة". انتهى من "إحكام الإحكام" (2/208).
وقال الفاكهاني في رياض الأفهام: "لا إشكالَ في تحريم الانتفاء مِن النسب المعلوم إلى نسبٍ غيره، وأنه من الكبائر؛ لما يتعلق بذلك من المفاسد العظام؛ من اختلاط الأنساب، وتحريم المحلَّلات، وتحليل المحرَّمات من الموطوءات، واختلافِ أحكام المواريث، وغيرِ ذلك مما يدوم تحريمُه، ويعمُّ ضررُه" انتهى من "رياض الأفهام" (5/83).
رابعًا:
لا حرج على الإنسان من نِسبَةِ نفسِه إلى أحد أجداده، أو بعض فروع قبيلته وأفخاذها ونحوها، ولو لم تكن النِّسبةُ مشهورةً. فجد الرجل الأدنى، والأعلى أيضا: أبوه.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ) متفق عليه، وبوّب عليه الإمام البخاري: "بَابُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِسْلاَمِ وَالجَاهِلِيَّةِ".
قال الطبرى: "وإنما لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتبرئ مِن أبيه، والمدَّعِي غيرَ نسبه، فمَن فعل ذلك فقد ركب مِن الإثم عظيمًا، وتحمّل مِن الوزر جسيمًا". نقله عنه ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (8/384).
خامسًا:
أمّا النسب البلادي والصناعي والمذهبي واللقبي والوصفي، فهو نسبٌ مكتَسب غير لازم، فلا حرج على مَن انتسب إليه أو تركه، أو رغب بتغييره إلى نِسبةٍ أخرى، وما زال المسلمون على هذا مِن العصور الأولى.
والشرط في ذلك: أن يكون صادقًا في هذه النِّسبة.
قال الخطابي: "نسب البلاد والأوطان، ونسب الصناعة والامتهان -أي المهنة، وقد يجوز في كل واحد من الأمرين أن ينتقل منه إلى غيره ...
وأنَّ نزيلَ بلدٍ من البلدان قد ينتسب إليه إذا طال مقامُه فيه، ويتعرف إلى الناس به، وقد جرت به العادة في قديم الدهر وحديثه ...
فأما استحداث الأنساب والألقاب بالصناعات والمهن: فالأمر في ذلك أوسع من ذاك". انتهى من "أعلام الحديث" (3/1760).
وقال شمس الدين السخاوي: "لا فرق فيمن ينتسب إلى محلٍّ بين أن يكون أصلياً منه، أو نازلاً فيه، بل ومجاوراً له، كما صرح به شيخُنا -يعني الحافظ ابن حجر-، ولذلك تتعدد النسبةُ إليه بحسب الانتقال، ولا حدَّ للإقامة المسوِّغة للنِّسبة بزمنٍ، وإن ضبطه ابنُ المبارك بأربعِ سنين، فقد توقف فيه ابنُ كثير ... وقال: وفيه نظر، بل قال البُلقيني: إنه قول ساقط لا يقوم عليه دليلٌ" انتهى من "فتح المغيث" (4/400)
قال الإمام يحيى بن معين -كما في تاريخه رواية الدوري (3/554)-: "عيسى الحناط، هو عيسى بن ميسره، ويقال: عيسى الخبّاط، ويقال: عيسى الخياط، كان كوفيًا انتقل إلى المدينة، وكان خياطًا، ثم ترك ذاك وصار حنَّاطًا، ثم ترك ذاك وصار يبيع الخبَط". أي ورق الشجر.
والحاصل:
أن الأصل فيمن يهاجر إلى بلاد غير عربية أو إسلامية أن يحافظ على اسمه ونسبه الدال على أصله، حتى لا تضيع هويته مع مرور الزمن، وإذا وجدت الحاجة للتغيير فلا حرج فيها، فالمحذور الشرعي أن يتبرأ الإنسان مِن نسبه الوِلادي، وينسُب نفسَه إلى غير أبيه وقبيلته، وذلك مِن كبائر الذنوب.
وينبغي على المسلم أن يعتز بنسبه واسمه الذي سماه به أبوه، وألا يفرط بهما خاصة في بلاد الغربة والبعد عن الأهل والأقارب؛ ليبقى معروفاً به يسهل به تواصلُه مع أقاربه ومعارفه، ويكون ذكرى لأولاده وأسرته ليتواصلوا مع أرحامهم وأقاربهم في المستقبل، وحتى لا يكون التغيير سبباً في تقطّع الأرحام، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنها: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ) رواه الترمذي، وقواه بعض أهل العلم.
والله أعلم.