منذ قرابة الثلاثة أشهر وأنا بفضل الله أصوم صيام داوود؛ فعندي استفساران بشأنه: الأول: هل من شرط تمام هذا الصيام الاستمرارية فيه حتى لقيا الله عز وجل؟ أعني: في نوادر الأيام يحصل أن أهدى شيئًا من الأطعمة التي تفسد أحيانًا لو لم تؤكل في حينها، أو أشعر بكسرة خاطر المهدي إن لم آكله؛ فأوثره على الصيام جبرًا له، فهل تفسد بهذا صورة صوم داوود؟ والثاني: أيضًا، هل يفسد صيام شعبان كاملًا صورة صيام داوود؟
الحمد لله.
فضيلة صيام داود عليه السلام الذي ورد في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) رواه البخاري (1079) يصدق على من التزم به الدهر، ويصدق على من صام زمنا معينا (ثلاثة أشهر أو ستة أو نحوها)؛ يصدق عليه أنه صام ذلك الزمن صيام داود، فحصلت له فضيلة صيام داود في ذلك الزمن، ولو تركه بعدها زمنا أو مطلقاً.
وليس في الأدلة ما يدل على أنه يلزم أن يصوم هذا الصيام الدهر كله حتى ينطبق عليه وصف الصيام الذي جاء الثناء عليه في الحديث السابق.
بل الأدلة العامة تدل على أنه يحصل له ثواب ذلك الصوم وفضله في الزمن الذي صامه، ويرتفع عنه إذا توقف عنه. كقوله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها [الأنعام: 160]، وقوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل: 89].
وفضيلة هذا الصيام لا تنقطع إذا قطعه لما هو أولى قطعا عارضاً، كإكرام ضيف، أو موافقة الأهل وإدخال السرور عليهم في مناسباتهم ونحو ذلك، فإنّ هذا العارض لا ينفي عنه صفة صيام داود.
فالذي يصوم صيام داود يقطعه في الأيام المنهي عن صومها (يوم عيد الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعده)، كما يقطعه السفر والمرض، ويقطعه عن المرأة كل شهر فترة الحيض، ومع هذا يصدق عليه أنه صام صيام داود.
كما لا يقطع السرد أحياناً إذا وافق صياما مسنونا يُصام سرداً، كصيام التاسع والعاشر من محرم، وصيام الست من شوال.
قال زكريا الأنصاري رحمه الله: "ولو صادف يوم فطره -من يصوم صيام داود-ما يسن صومه كعرفة وعاشوراء: فالأفضل صومه، ولا يكون صومه مانعا من فضل صوم يوم وفطر يوم" انتهى من "الغرر البهية" (2/ 237).
وعليه؛ فإن الأحكام والأوصاف التي ترد في النصوص، تكون لغالب الحال، كما جاء وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدع قيام الليل، وورد أنه تركه في مزدلفة، وفي بعض الغزو، ولا ينفي هذا القطع العارض الصفة اللازمة، إذ الحكم للغالب، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف لا يثبت إلا بالديمومة وعدم الانقطاع.
يقول الشيخ مصطفى الزحيلي رحمه الله: " العبرة للغالب الشائع لا للنادر"...، وهذا يعني أنّه إذا بُني حكم شرعي على أمر غالب وشائع فإنه يبنى عاماً للجميع، ولا يؤثر على عمومه واطراده تخلف ذلك الأمر في بعض الأفراد، أو في بعض الأوقات" انتهى من "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" (1/ 325).
ثانيا: هل صيام شعبان يفسد فضيلة صيام داود؟
أما ما يتعلق بصيام شعبان كاملاً، وهل يفسد فضيلة صيام داود عليه السلام؟
فاعلم أنّ السنة صيام أغلب شعبان، وفطر شيء منه، أما صيامه كاملاً فليس من السنة على القول الصحيح، وقد سبق بيان ذلك بفتوى مفصلة في الموقع فيحسن الرجوع إليها (13729 ).
وأما صيام أكثره متتابعاً، فالظاهر أنه أفضل من صيام يوم وإفطار يوم منه لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان إلا قليلا، ولا شك أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأكمل والأفضل. وقد سبق في كلام زكريا الأنصاري رحمه الله أن الأيام التي يستحب صيامها متتابعة ، فالأفضل صيامها ، وأن هذا لا ينافي فضيلة صوم داود عليه السلام .
والله أعلم