اريد معرفة اذا الصحابي عبيد الله بن جحش ارتد ومات نصراني حيث ان الروافض يستخدمونه كمثال للطعن بالمهاجرين والانصار اللذين مدحهم الله بالقرآن الكريم. يقول الروافض ان الله عزوجل يقصد فقط بعض المهاجرين والانصار وليس كلهم
الحمد لله.
أولا:
اشتهر في كتب التاريخ والسير خبر تنصّر عبيد الله بن جحش بعد هجرته إلى الحبشة، ويذكرون ذلك عادة في ترجمة أم حبيبة رضي الله عنها؛ لأنها كانت زوجته وقت هجرته إلى الحبشة.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت عند عبيد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت هي على دينها… " انتهى. "كشف المشكل" (2 / 463 - 464).
لكن على شروط أهل الحديث في صحة الأخبار، لم يرد خبر تنصّره بإسناد تجتمع فيه شروط الصحة، بل أقوى ما ورد في هذا روايتان:
الأولى:
ما رواه ابن منده في "معرفة الصحابة" (ص 952)، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن معروف الأصبهاني، حدثنا عبيد بن عبد الواحد، حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: ( هاجر عبيد الله بن جحش بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي امرأته إلى أرض الحبشة، فلما قدم أرض الحبشة تنصّر، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وبعث معها النجاشي شرحبيل بن حسنة، فأهداها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
لكن عبيد بن عبد الواحد، قد خالفه من هو أوثق منه وأعلم بحديث الزهري، وهو محمد ين يحيى الذهلي، فليس في روايته لفظة: (تنصّر)، بل في روايته: ( فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، مَرِضَ ).
وقد أخرجها ابن حبان كما في "الإحسان" (13 / 385 - 386)، قال: أخبرنا ابْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ،قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، قال: حدثنا الليث، عن ابن مسافر، عن بن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "هَاجَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، مَرِضَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، أَوْصَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَبَعَثَ مَعَهَا النَّجَاشِيُّ شُرحبيلَ بنَ حَسَنَةَ".
وقال الشيخ شعيب في تعليقه على "الإحسان": " إسناده صحيح على شرط البخاري، رجاله رجال الشيخين غير محمد بن يحيى الذهلي، فمن رجال البخاري " انتهى.
الرواية الثانية:
وهي ما رواه ابن إسحاق من مرسل عروة.
قال ابن هشام في "السيرة" (4 / 6):
" قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمًا، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ تَنَصَّرَ، قال: فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقَحْنا وصأصأتم، أي قد أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد " انتهى.
وهذا خبر مرسل غير متصل الإسناد، و ابن إسحاق أحيانا يروى هذا الخبر من كلام مُحَمَّد بْن جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، لا من كلام عروة.
كما في قول ابن هشام في "السيرة" (1 / 238):
" قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: كان عبيد الله ابن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم هنالك من أرض الحبشة، فيقول: فقحنا وصأصأتم، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر " انتهى.
وقوله: "فقحنا" قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: " قالَ أبُو عَمْرو وأبُو زيد والفراء أو بَعضهم: يُقال قد فَقَّح الجِرْوُ إذا فتح عَيْنَيْهِ. وقالَ غَيرهم فِي قَوْله: صَأصَأتُم يُقال: صَأصَأ الجِرْوُ إذا لم يَفتح عَيْنَيْهِ فِي أوانِ فتحِه. فَأرادَ عبيد الله أنِّي أبْصرت ديني ولم تُبْصِرُوا دينكُمْ." انتهى، من "غريب الحديث" (4/487).
والوارد في أخبار عروة المسندة التي أخرجها أئمة الحديث وانتقوها في السنن والصحاح: ليس فيه ذكر لتنصر عبيد الله، كما سبق عند ابن حبان.
وكما روى أبو داود في "السنن" (2107)، قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ: " أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَمَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ ).
وما دام لم يثبت خبر صحيح بردته، فينبغي للمسلم أن يمسك عما لا يعلم، خاصة وأن الخوض في هذه المسألة مما لا حاجة إليه شرعا.
وقد استدل الدكتور محمد بن عبد الله العوشن في كتابه "ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية" (ص 42) على استبعاد ردة عبيد الله بن جحش، بحديث عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُل، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ... قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ... " رواه البخاري (7) ومسلم (1773).
وهو استدلال حسن لطيف يستأنس به على استبعاد ردته؛ فأبو سفيان نفى ردة من يعرفهم من المسلمين، ومنهم عبيد الله بن جحش، فقد كان زوج أم حبيبة، وهي ابنة أبي سفيان، وكانت رحلة أبي سفيان إلى الشام ودخوله على هرقل بعد صلح الحديبية، كما هو واضح من قوله: ( وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ).
والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة ابنة أبي سفيان بعد صلح الحديبية سنة سبع للهجرة بعد وفاة زوجها، فالذي يلزم من أخبار تنصّر عبيد الله بن جحش أن ردته كانت قبل هذا بزمن.
ثانيا:
وعلى القول بصحة خبر ردته، فهذا لا يطعن في سائر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين الذين مدحهم الله تعالى ووعدهم الحسنى، كما في قوله سبحانه وتعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة/100.
فالمهاجرون في الآية هم من هاجروا إلى المدينة وقاتلوا وأنفقوا قبل الفتح.
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ )، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الذين صدقوا النبي وهاجروا إلى المدينة.
وقال أبو موسى وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرا.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان.
فهؤلاء السباق من المهاجرين ... " انتهى. "البسيط" (11 / 23).
وقال رحمه الله تعالى:
" والهجرة أنواع: فأعلاها وأفضلها هجرة المهاجرين دورهم ومساكنهم بمكة إلى المدينة، وهم الذين ذكرهم الله في قوله:( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ )، وذكرهم في القرآن كثير " انتهى. "التفسير البسيط" (7/ 32).
ويدل لقول الشعبي قوله تعالى:
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الحديد/10.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"... أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم، بل كان المسلمون كلهم. يعرفون فضلهم عليهم؛ لأن الله تعالى بيّن فضلهم في القرآن بقوله تعالى: ( لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى )، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية...
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ) هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ... " انتهى. "منهاج السنة النبوية" (2 / 25 - 26).
وقال رحمه الله تعالى:
" والسابقون الأولون، أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة عام الحديبية... " انتهى. "منهاج السنة" (4 / 397).
فهذا النص يعم جميع المهاجرين الأولين الذين قاتلوا وأنفقوا قبل الفتح، والواجب حمل العام على ظاهره ولا يخص منه أحد أفراده إلا بدليل صحيح.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سندا ومتنا؛ فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعا " انتهى. "أضواء البيان" (4 / 220).
فأين أدلة الشيعة الواضحة الصحة على أن هذه الآيات لا يراد بها العموم، وأنها لا تشمل أبابكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين؟!
ثم كل ما يقولونه في شأن هؤلاء الأكابر، واستثنائهم من الفضل والسبق والصحبة، وارد بأقوى مما ذكره في علي ومن يعظمونه.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم، أنه ضال مخالف لله جل وعلا؛ حيث أبغض من رضي الله عنه، ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا، وتمرد وطغيان " انتهى. "أضواء البيان" (2 / 558).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (405208)
والله أعلم.