الحمد لله.
وقع خلاف بين أهل العلم في كيفية النهوض من السجود إلى الركعة الثانية، فذهب جمع من أهل العلم إلى أن القيام يكون بالاعتماد على اليدين، واستندوا إلى ما رواه البخاري (824) عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: " جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: وَكَيْفَ كَانَتْ صَلَاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلَاةِ شَيْخِنَا هَذَا، يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ. قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ".
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وقد اختلف العلماء في القائم إلى الركعة الثانية من صلاة: كيف يقوم؟
فقالت طائفة: يعتمد بيديه على الأرض، كما في حديث مالك بن الحويرث هذا...
وهو قول مالك والشافعي وإسحاق.
وروي عن أحمد، أنه كان يفعله، وتأوله القاضي أبو يعلى وغيره على أنه فعله لعجز وكبر.
وقد روي عن كثير من السلف، أنه يعتمد على يديه في القيام إلى الركعة الثانية، منهم: عمر، وعبادة بن نسي، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والزهري، وقال: هو سنة الصلاة -، وهو قول الاوزاعي وغيره، ورخص فيه قتادة…
والأكثرون على أنه لا تلازم بين الجلسة والاعتماد، فقد كان من السلف من يعتمد ولا يجلس للاستراحة، منهم: عبادة بن نسي، وحكاه عن أبي ريحانة الصحابي...
ولا يبعد إذا قلنا: إن جلسة الاستراحة فعلها تشريعا للأمة، أن يكون الاعتماد فعله كذلك " انتهى من "فتح الباري" (7 / 291).
ولم ترد في السنة هيئة محددة لكيفية وضع اليدين على الأرض.
سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" قرأت في كتاب: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" للشيخ محمد الشربيني حديثًا يقول فيه: عن ابن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الصلاة وضع يده بالأرض كما يضع العاجن ) ما مدى صحة هذا الحديث؟ وما معناه؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب:
المعروف أنه ليس بصحيح، والإنسان يعتمد كيف شاء على يديه على بطونها، أو على ظهورها، يعتمد حيث شاء، هذا هو الأصل ... " انتهى. من: "موقع الشيخ".
وما ورد عند الطبراني في "المعجم الأوسط” (4 / 213)، قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ قَالَ: حدثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حدثنا الْهَيْثَمُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: " رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَعْجِنُ فِي الصَّلَاةِ يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا قَامَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْجِنُ فِي الصَّلَاةِ، يَعْنِي: يَعْتَمِدُ ".
قال الطبراني: " لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَزْرَقِ إِلَّا الْهَيْثَمُ، تَفَرَّدَ بِهِ: يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ ".
والهيثم مجهول.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" خرّجه الطبراني في "أوسطه".
والهيثم هذا، غير معروف " انتهى من "فتح الباري" (7 / 293).
وقد رواه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" (2 / 525)، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَعْجِنُ فِي الصَّلَاةِ؛ يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا قَامَ ، فَقُلْتُ لَهُ ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يَفْعَلُهُ".
وقد رجح الشيخ الألباني ، بأن الهيثم في هذا الإسناد هو الهيثم بن عمران.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" لكن شيخه الهيثم بن علقمة بن قيس بن ثعلبة لم أعرفه، ولم أر أحدا ذكره، فأخشى أن يكون وقع في الرواية شيء من التحريف، فقد أخرج الحديث أبو إسحاق الحربي في " غريب الحديث " هكذا: حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا يونس بن بكير عن الهيثم عن عطية بن قيس عن الأزرق بن قيس به.
والحربي ثقة إمام حافظ، فروايته مقدمة على رواية علي بن سعيد الرازي، فإن هذا وإن وثقه مسلمة بن قاسم، فقد قال الدارقطني: " ليس بذاك "، فقوله في الإسناد: " الهيثم بن علقمة بن قيس بن ثعلبة " يكون من أوهامه إن كان محفوظا عنه، والصواب قول الحربي: " الهيثم عن عطية بن قيس ". والهيثم هذا هو ابن عمران الدمشقي، وثقه ابن حبان، وقد روى عنه جمع من الثقات " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (6/381).
لكن الهيثم بن عمران لم ينص على توثيقه أحد، فقط ذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" (7 / 577)، وهذا وحده لا يكفي للجزم بثقة الراوي.
وقد ورد هذا الخبر عن ابن عمر من غير لفظ العجن وموقوفا من فعله رضي الله عنه، كما عند ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/376)، حيث قال:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ، ينهَض فِي الصَّلَاةِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ".
وقد توسع العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رحمه الله في نقد هذا الحديث والكلام على ما تضمنه، في جزء خاص: " كيفية النهوض في الصلاة، وتضعيف حديث العجن"، فليراجع.
والحاصل؛ أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة مخصوصة في كيفية وضع اليدين على الأرض حال القيام من السجود، ونص بعض أهل العلم على أن الاعتماد يكون على بطن الكف والأصابع.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وإذا اعتمد بيديه جعل بطن راحتيه وبطون أصابعه على الأرض بلا خلاف " انتهى من "المجموع شرح المهذب" (3/422).
والله أعلم.