الحمد لله.
أولا:
العقيدة الصحيحة تؤخذ من الكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام من أهل القرون المفضلة، فعليك بما في كتاب التوحيد من صحيح البخاري، وما في كتاب السنة من أبي داود، وما كتبه الإمام أحمد، وما نقله عنه ابنه عبد الله في السنة، وحرب الكرماني في مسائله، وما كتبه الطبري والدارمي والمزني والآجري، وأمثالهم من المتقدمين، وكتبهم مطبوعة والحمد لله، وتجد آثار السلف مجموعة في: الإبانة لابن بطة، والشريعة للآجري، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للطبري اللالكائي، والعرش لابن أبي شيبة، والعرش للذهبي، والعلو للذهبي.
ثانيا:
لم يقل أحد من أهل العلم إن الله في حيز مادي، إلا قول الجهمية إنه في كل مكان، فهذا يعتبر تحييزا، أو يلزم منه القول بالتحيز. والقول بذلك كفر عند أهل السنة.
والأقوال في علو الله ثلاثة:
1-أنه فوق كل شيء، فوق السموات والعرش والأمكنة، فلا يحوزه شيء، ولا يحيط به شيء، وهذا ما دلت عليه النصوص، وهو قول السلف والأئمة.
2-أنه في كل مكان، وهو قول الجهمية، ومثله قول الصوفية من أصحاب الاتحاد.
3-أنه لا داخل العالم ولا خارجه، وهو قول الأشاعرة والماتريدية، وهو قول باطل مخالف للنصوص، ولإجماع السلف، مع ما فيه من وصف الله بصفات العدم؛ فإن هذه صفة المعدوم، فليس إلا الله والعالم، فإما أن يكون الله داخل العالم، أو خارجه، وأما لا داخل ولا خارج، فهذه صفة المعدوم.
وحاصل هذا القول الباطل: أن وجود الله وجود ذهني عقلي، لا في الخارج.
ولهذا قال ابن كلاب -وهو شيخ الأشعري-: "أُخْرجَ من النظر والخبر قول من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيا مستويا؛ لأنه لو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر من هذا، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون" انتهى نقلا عن "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (5/317).
وختم الذهبي رحمه الله كتابه العلو بقوله: " وَالله فَوق عَرْشه، كَمَا أجمع عَلَيْهِ الصَّدْر الأول وَنَقله عَنْهُم الْأَئِمَّة، وَقَالُوا ذَلِك رادين على الْجَهْمِية الْقَائِلين بِأَنَّهُ فِي كل مَكَان، محتجين بقوله: وَهُوَ مَعكُمْ؛ فهذان الْقَوْلَانِ هما اللَّذَان كَانَا فِي زمن التَّابِعين وتابعيهم، وهما قَولَانِ معقولان فِي الْجُمْلَة.
فَأَما القَوْل الثَّالِث الْمُتَوَلد أخيرا، من أَنه تَعَالَى لَيْسَ فِي الْأَمْكِنَة وَلَا خَارِجا عَنْهَا، وَلَا فَوق عَرْشه وَلَا هُوَ مُتَّصِل بالخلق وَلَا بمنفصل عَنْهُم، وَلَا ذَاته المقدسة متحيزة وَلَا بَائِنَة عَن مخلوقاته، وَلَا فِي الْجِهَات وَلَا خَارِجا عَن الْجِهَات، وَلَا، وَلَا؛ فَهَذَا شَيْء لَا يعقل وَلَا يفهم، مَعَ مَا فِيهِ من مُخَالفَة الْآيَات وَالْأَخْبَار.
ففر بِدينِك، وَإِيَّاك وآراء الْمُتَكَلِّمين، وآمن بِاللَّه، وَمَا جَاءَ عَن الله، على مُرَاد الله، وفوض أَمرك إِلَى الله، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه" انتهى من "العلو" ص 267.
ثالثا:
الله عز وجل يتكلم حقيقة، وكلامه بحرف وصوت، وقد نادى موسى عليه السلام، والنداء الكلام بصوت مرتفع، ومن كلامه القرآن، وهو حروف معلومة، وهو سبحانه يتكلم متى شاء، وليس كلامه محصورا في الأزل، كلم الملائكة، وكلم آدم، ثم موسى، ثم محمدا صلى الله عليهم وسلم، ويكلم عباده يوم القيامة، ويكلم أهل الجنة في الجنة، تعالى أن يقول: (يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) قبل أن يخلق الجنة والشجرة، وقبل أن يخلق آدم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة" (1/280): "سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى، لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ؟ فَقَالَ أَبِي: بَلَى؛ إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ" انتهى.
وقال الخلال: "وأنبأنا أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله [أي الإمام أحمد] وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال، عافاه الله" نقله شيخ الإسلام في "درء التعارض" (2/38).
وقال البخاري رحمه الله في إثبات الصوت: "وأن الله عز وجل ينادي بصوت، يسمعه مَن بعُد، كما يسمعه مَن قَرُب، فليس هذا لغير الله جل ذكره.
قال أبو عبد الله: وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوته جل ذكره يُسمع من بُعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يَصعقوا" انتهى من "خلق أفعال العباد"، للبخاري، ص 149.
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: " ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة، ويكلمونه، ويأذن لهم، فيزورونه، قال الله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] وقال سبحانه: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) [الأعراف: 144] وقال سبحانه: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) [البقرة: 253] وقال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الشورى: 51] وقال سبحانه: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) [طه: 11 - 12] وقال سبحانه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: 14]؛ وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء "، روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلا بهما، فيناديهم بصوت يَسْمعه مَن بعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك أنا الديان، رواه الأئمة واستشهد به البخاري" انتهى من "لمعة الاعتقاد" ص 15.
رابعا:
مسائل الخلاف بين السلف والجهمية ومن تبعهم، منها ما هو إيمان وكفر، كمسألة العلو، والكلام، وأن القرآن غير مخلوق، ألفاظه ومعانيه، وأن الله يرى في الآخرة، وأن العبد فاعل حقيقة غير مجبور.
فالقول بأن الله في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه، أو أنه لا يتكلم، أو كلامه معنى فقط، أو ألفاظ القرآن مخلوقة، أو أن الله لا يُرى في الآخرة، أو أن العبد غير فاعل حقيقة: كل هذا كفر.
لكن كون المقالة في نفسها كفرا: هذا شيء؛ وكون القائل المعين بها كافر: هذا شيء آخر.
فإن القائل المعين: لا يكفر؛ إلا أقيمت عليه الحجة الرسالية بأن قوله ذلك كفر، مخالف لما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا، فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.
لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ: لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 345).
وقال رحمه الله: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرا، كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة؛ ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة، كما تقدم. كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر؛ والزنا وتأول؛ فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له، واستتابته - كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر - ؛ ففي غير ذلك أولى وأحرى" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/619).
وهذا هو الفارق بين أهل السنة والمتكلمين، فأهل السنة يعذرون الجاهل والمقلد والمتأول في هذا الباب، بخلاف كثير من المتكلمين ممن يطلق القول بتكفير العوام المثبتين للجهة!
والنصيحة لك أن تقبل على تعلم عقيدة السلف، وأن تأخذها من مصادرها السلفية، لكبار أئمة أهل السنة؛ لا سيما المتقدمة منها على ظهور الأشعرية والماتريدية.
ولتعلم أن الله تعالى قد بين أمور الاعتقاد بيانا شافيا في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار على ذلك الصحابة والتابعون والأئمة، واتباع سبيلهم واجب، كما قال الله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء/115.
والله أعلم.