الحمد لله.
تضمن سؤال عدة إشكالات، وسنبين حكمها بإيجاز.
أولاً:
قولك (أزعجتُ والدي بسبب زيادة مصروف الجيب. بعد ذلك حَلَفَ يمينا أنه لن يزيده أبدًا أو لن يعطيني مصروفا الآن بعد أن تشاجرت معه)
وهذا الأمر ينم عن إشكالية عظيمة أكبر مما سألت عنه من حكم الكفارة؛ لأن إزعاجك لوالدك، وتشاجرك معه من الكبائر التي تودي بصاحبها إلى المهالك.
وعدم رضاك عن مصروف الجيب الذي يعطيك والدك ليس مسوغًا لهذا السلوك الخاطئ والمشين، فهذا مخالف لما أمر الله به من البر والإحسان إلى الوالدين.
فإنّ الله سبحانه وتعالى لما أرشد لبر الوالدين ذكر أعلى مراتب البر، وهو الإحسان، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)الإسراء/ 23-24.
كما أشارت الآية الكريمة إلى أمرين هامين في التعامل الواجب معهما:
الأول: ما يتعلق بلغة الخطاب (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا).
قال الإمام الطبري في تفسير (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ): " يقول: فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما، أو منهما، مما يتأذّى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما، كما صبرا عليك في صغرك".
(وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) وقل لهما قولا جميلا حسنا، وقال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول".
الثاني: ما يتعلق بحركة الجسد (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
قال الإمام الطبري في تفسير الآية: "وكن لهما ذليلا، رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به، مما لم يكن لله معصية، ولا تخالفهما فيما أحبَّا" انتهى من "تفسير الطبري" (17/415).
وهذا أقل ما يجب نحو والدك: القول الكريم، ولين الجانب.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وقال يزيد بن أبي حبيب: "إيجاب الحجة على الوالدين عقوق" يعني الانتصار عليهما في الكلام" انتهى من "بر الوالدين" (ص:8 بترقيم الشاملة).
فأحسن إلى والدك يحسن الله إليك، وستجد كل خير في العاجل والآجل. فعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ) رواه الترمذي (1900)، وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة" (914).
ثانياً:
ما تطلبه من والدك من مصروف الجيب وأنت في هذا العمر (24 سنة) وقادر على الاكتساب لا يلزمه أبداً، وحتى في حال لزوم النفقة عليك وأنت دون هذا العمر، أو تعطلك عن الاكتساب، فإن مصروف الجيب غالباً من الكماليات، والنفقة فيما جرى العرف أنها من أساسيات الحياة، وما زاد عن ذلك فهو إحسان.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال أبو حنيفة: ينفق على الغلام حتى يبلغ، فإذا بلغ صحيحا، انقطعت نفقته، ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج، ونحوه قال مالك". "المغني" لابن قدامة (11/ 378).
وهذا هو قول الشافعية.
قال المزني رحمه الله: "قال الشافعي رضي الله عنه: " فينفق الرجل على ولده حتى يبلغوا الحلم، أو المحيض؛ ثم لا نفقة لهم، إلا أن يكونوا زمنى، فينفق عليهم إذا كانوا لا يغنون أنفسهم" انتهى من "الحاوي الكبير" (11/ 484).
ثالثاً:
فيما يتعلق باليمين وقول والدك إنه لم يحلف بالله، وإنما قال أقسم وسكت، أو حلف بأشياء مثل الحديد والباب ونحو ذلك.
1. فبالنسبة لقوله: "أقسمت" دون أن يتم اليمين، فإن كان نواه – حين تلفظه به - يمينا، فهو يمين، وعليه الكفارة، وإن لم ينوه يميناً، فلا يعتبر يمينا، وليس عليه كفارة، وهو ظاهر حال والدك؛ لقوله "إن اليمين لا ينعقد إلا إذا ذكر اسم الله معه"، مما يدل على أنه لم ينو يمينا.
قال ابن قدامه رحمه الله: "فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلن، ولم يذكر بالله، فعن أحمد روايتان؛ إحداهما، أنها يمين، سواء نوى اليمين أو أطلق. وروى نحو ذلك عن عمر، وابن عباس، والنخعي، والثوري، وأبى حنيفة، وأصحابه.
وعن أحمد، إن نوى اليمين بالله كان يمينا، وإلا فلا. وهو قول مالك، وإسحاق، وابن المنذر؛ لأنه يحتمل القسم بالله تعالى، وبغيره؛ فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة" انتهى من "المغني" (13/ 469).
وقال ابن حجر رحمه الله:" قال بن المنذر اختُلف فيمن قال أقسمت بالله، أو أقسمت مجردة، فقال قوم: هي يمين، وإن لم يقصد. وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس، وبه قال النخعي والثوري والكوفيون.
وقال الأكثرون: لا تكون يمينا إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله: يمين. وأقسمت، مجردة: لا تكون يمينا إلا إن نوى" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (11/ 542).
2. اما بالنسبة لقوله حلفت بالحديد والباب ونحو ذلك، فهذا أمر خطير ويعتبر من الشرك الأصغر، ولا ينعقد يمينا أصلاً، ولا كفارة فيه.
فلا يجوز الحلف بغير الله عز وجل، فقد جاء النهي الصريح عن فعله، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلَّا فليصمت) رواه البخاري (5757)، ومسلم (1646).
وقوله: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (2535)، واللفظ له. وصححه الألباني في "الإرواء" (2561)
قال ابن عبد البر رحمه الله: "لا يجوز الحلف بغير الله عز وجل في شيء من الأشياء، ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه" انتهى من "التمهيد" (9/ 254).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فقد ثبت بالنُّصوص الصَّحيحة الصَّريحة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنَّه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصَّالحين وغيرهم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/291).
قال ابن قدامة رحمه الله: "ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق، كالكعبة، والأنبياء، وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها. وهو قول أكثر الفقهاء " انتهى من "المغني" (9/405).
وبناء على ما سبق: فإن اليمين التي حلف والدك غير منعقدة أصلاً، ومن فعل ذلك، فعليه التوبة إلى الله عز وجل، وأن يقول: لا إله إلا الله.
كما أنّ عليك أنت التوبة فيما ألجأته إلى مثل هذا ولم تحسن صحبته كما أمرك الله.
وإذا كان الوالد قد توفاه الله عز وجل، ولو من غير توبة من ذلك؛ فلا يحكم عليه بأن عليه وزر ذلك، لازما، بل هو في مشيئة الله عز وجل؛ إن شاء الله حاسبه عليه، أو عذبه، وإن شاء عفا عنه سبحانه.
وإن عذبه، فإن عذاب عصاة الموحدين: ليس مؤبدا؛ بل مآلهم إلى رحمة الله وجنته، وإن عذب من عذب منهم على ذنبه.
والله أعلم.