أرغب في معرفة تفسير الحديث التالي، قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ...). هل معنى جملة ( إن الله قسم بينكم أخلاقكم) أن الإنسان يولد بأخلاق معينة مثلها مثل الرزق؟ ثم يسعى العبد على تقويمها إن كانت سيئة؟ أم إن هناك تفسير آخر؟ لأني شعرت أنه من غير الممكن أن يخلقني الله بخلق سيء، ثم يحاسبني عليه، وغيري من خلق بخلق حسن ويكافئ عليه؟
الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر رواه الإمام أحمد في "المسند" (6 / 189)، وابن أبي شيبة في "المسند" (1/231 - 232)، والحاكم في "المستدرك" (2/447) ، وغيرهم: عَنْ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ ….
وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " انتهى. ووافقه الذهبي.
وفي إسناده الصباح بن محمّد، وقد ضعّف.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" الصباح بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي ضعيف أفرط فيه ابن حبان " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 274).
وقد ساق ابن عبد البر هذا الخبر من هذا الطريق في "التمهيد" (16/396)، ثم قال:
"هذا حديث حسن الألفاظ، ضعيف الإسناد " انتهى.
وقد خالف الصباحَ غيرُه فرووا هذا الخبر عن مرة موقوفا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
فرواه البخاري في "الأدب المفرد" (275)، وأبو داود في "الزهد" (157)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9 / 229)، وغيرهم، من عدّة طرق: عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ….
وصحح ووقفه الدارقطني في "العلل" (5/ 269 — 271).
ورجح وقفه أيضا محققو المسند.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: " فيظهر من هذا التخريج: أن الأصح في إسناد الحديث أنه موقوف … " انتهى من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/484).
ثانيا:
الذ ي ترشد إليه نصوص الوحي، وواقع الناس؛ هو أن الناس يُخلقون ولهم سجايا وأخلاق مغروزة في نفوسهم، لكن حالها كحال الفطرة، فالناس يولدون على الفطرة، ثم تتغير بسبب المجتمع والعائلة التي يولد فيها، فكذلك الإنسان قد يكتسب من الوسط الذي يعيش فيه جملة من الأخلاق، وقد يعالج نفسه ويجتهد في تأديبها حتى تتخلق بأخلاق يهواها، ولقابلية النفس للتخلق، جاء الشرع بأمر الناس بملازمة محاسن الأخلاق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فإن قلت: هل يمكن أن يكون الخلق كسبيا، أو هو أمر خارج عن الكسب؟
قلت: يمكن أن يقع كسبيا، بالتخلق والتكلف، حتى يصير له سجية وملكة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ( إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ ). فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ فقال: ( بل جبلك الله عليهما ). فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. فدل على أن من الخلق ما هو طبيعة وجبلة، وما هو مكتسب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سيئ الْأَخْلَاقِ، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ ). فذكر الكسب والقدر" انتهى من "مدارج السالكين" (3 /46 - 47).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد، والنسائي، والبخاري في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ فِيكَ لخصلتين يُحِبُّهُمَا الله: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ، قال: يا رسول الله! قَدِيمًا كَانَا فِىَّ أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ: قَدِيمًا.
قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا: .
فترديده السؤال، وتقريره عليه: يشعر بأن في الخُلُق ما هو جبلي، وما هو مكتسب " انتهى من "فتح الباري" (10/459).
وكل الناس - أصحاب الخلق الحسن والسيء - : مُبتلون ومختبرون في استعمال هذه الأخلاق:
فصاحب الخلق الحسن، عندما يثيبه الله عليه، إنما يثيبه على كيفية استعماله، فالخلق الحسن وإن تيسّر للعبد، فإن الإخلاص فيه وتحري استعماله في المقاصد المحمودة، وتجنب المقاصد السيئة: يحتاج إلى مجاهدة للنفس والصبر على طريق الخير، فكثير من الناس أعطي خلق الشجاعة فاستعملها في مقاصد مذمومة كالاعتداء والظلم وحبّ العلو في الأرض، فتجد كثيرا من الشجعان سلكوا طريق قطع الطرق، أو طريق الخوارج ونحو هذا، وربما استعمل هذه الشجاعة في الخير لكن بقصد الشهرة والمدح من الناس.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ... رواه مسلم (1905).
كما ترى كثيرا ممن أعطي خلق اللين والرحمة والرفق قد استعملها في مقاصد سيئة وللوصول إلى شهواته المحرمة، وربما أقعده هذا الخلق عن قول الحق والقيام بالعدل فاتّسم بالنفاق، كما نجد كثيرا مما أعطي حسن القول وحسن العشرة قد استعمل هذا في شهواته المحرمة فأصبح زير نساء، وبعض من يعطى خلق الكرم يستعمله بقصد السيادة والشهرة في قومه وهكذا عند تتبع أنواع الأخلاق الحسنة.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" فإن قيل: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخلق إن كان غريزة؟
قيل له: لم يثب على خِلْقة ما خلق، وإنما أثابه على استعماله ما خلق فيه من ذلك، فيما أمره باستعماله فيه، نظير الشجاعة التي خلقها فيه، وأمره باستعمالها، عند لقاء عدوه وأثابه على ذلك، وإن استعملها في غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا على ما خلق فى العبد " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (9/233).
وسيء الخلق ممتحن ومختبر بالاجتهاد في تغيير خلقه السيء والصبر على الحسن.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقد قدّمنا في غير موضع: أن أصل الخلق جبلّة في نوع الإنسان، غير أن الناس في ذلك متفاوتون، فمن الناس من يغلب عليه بعضها ويقف عن بعضها، وهذا هو المأمور بالرّياضة والمجاهدة حتى يقوى ضعيفها، ويعتدل شاذّها … " انتهى من "المفهم" (6/117).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدا، كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجنب، وكذلك الميت بغرق أو حرق أو هدم؛ فمن أمراض النفس ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدا. كالجبان الذي يتقي الله ويصبر للقتال حتى يقتل؛ فإن البخل والجبن من أمراض النفوس، إن أطاعه أوجب له الألم، وإن عصاه تألم، كأمراض الجسم.
وكذلك العشق، فقد روي من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات مات شهيدا؛ فإنه مرض في النفس يدعو إلى ما يضر النفس، كما يدعو المريضَ إلى تناول ما يضر، فإن أطاع هواه عظم عذابه في الآخرة، وفي الدنيا أيضا، وإن عصى الهوى بالعفة والكتمان، صار في نفسه من الألم والسقم ما فيها، فإذا مات من ذلك المرض: كان شهيدا. هذا يدعوه إلى النار فيمنعه، كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة، فيقدمها.
فهذه الأمراض: إذا كان معها إيمان وتقوى، كانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/147-148).
والله أعلم.