الحمد لله.
أولاً:
من مقتضيات الإيمان، أن يكون عند المسلم يقين جازم بأن الله تعالى لا يفعل شيئاً ولا يخلق شيئاً إلا لحكمة، سواء ظهرت لخلقه أم لم تظهر.
قال ابن القيم رحمه الله: "دلت أدلة العقول الصحيحة والفِطَر السليمة على ما دلَّ عليه القرآن والسنة؛ أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل" انتهى من "شفاء العليل" (2/ 115).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فليست أفعال الله وأحكامه لمجرد المشيئة؛ بل هي لحكمة بالغة اقتضت المشيئة"
وقال: "اعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً [الإنسان: 30]" انتهى من "تفسير العثيمين/ الفاتحة والبقرة" (1/ 295) و (3/ 352).
كما أنّ من كمال الإيمان وتمام الأدب مع الله عز وجل: عدم السؤال عما يفعل لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]؛ ولذا فإن تعبيرك بقولك: "لماذا ترك الله سبحانه وتعالى إبليس ليغوي الناس..." لم يكن هو الأسلوب الأقوم والأصوب في طرح الإنسان ما يرغب بمعرفة الحكمة فيه من أفعال الله عز وجل.
قال الطبري رحمه الله: "لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من حكمه فيهم؛ لأنهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل، فيقول له: لم فعلت؟ ولمَ لم تفعل؟" " انتهى من "تفسير الطبري" (18/ 425).
وقال ابن القيم، رحمه الله: " مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله: على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها، على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: "يا بني إسرائيل؛ لا تقولوا لم أمر ربنا، ولكن قولوا بم أمر ربنا؟".
ولهذا كانت هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما، لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك، ولم نهى عن كذا، ولم قدر كذا، ولم فعل كذا؛ لعلمهم أنّ ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه" " انتهى من "الصواعق المرسلة لابن القيم" (4/ 1560).
ثانياً:
تلمس المؤمن للحِكمة من أجل رفع مستوى إيمانه ويقينه لا بأس به، ولا زال أهل العلم يتلمسون الحكم في بعض الأحكام الشرعية والقدرية، فإن ظهر لهم شيء ذكروه من أجل زيادة الإيمان واليقين، وإن لم يظهر لهم شيء سلموا بأن الحكمة في حكمه تعالى الشرعي والقدري.
أما السؤال عن الحكمة للمنازعة والاعتراض، فهذا من أسباب الضلال وسوء الظن بالله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر، أو فقهها العقل: كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته، لم يوهن ذلك انقياده ولم يقدح في امتثاله، فالمعظم لأمر الله يجري الأوامر والنواهي على ما جاءت، لا يعللها بعلل توهنها وتخدش في وجه حسنها، فضلا عن أن يعارضها بعلل تقتضي خلافها" انتهى من "الصواعق المرسلة" (2/ 1131).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أما السؤال عن الحكمة من باب الاسترشاد: فإن هذا لا بأس به؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة بعض الأشياء، كما في قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [البقرة: 189]؛ والسؤال على هذا الوجه من باب طلب العلم الذي يزداد به المؤمن إيماناً، وعلماً؛ وأما السؤال عن الحكمة بحيث لا يستسلم الإنسان للحُكم، ولا ينقاد إلا بمعرفتها: فهذا ضلال، واستكبار عن الحق، واتباع للهوى، وجعل الشريعة تابعة لا متبوعة" انتهى من "تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة" (1/ 133).
ثالثاً:
فيما يخص الحكمة في تقدير الله عز وجل بجعل إبليس يسعى في إغواء الناس، فمما سبق نعلم أن هذا التقدير هو الحكمة البالغة التي قد نعلم تفاصيلها أو لا نعلمها، وفقد ذكر بعض أهل العلم لهذا التقدير حِكماً تلمسوها من خلال النصوص العامة، من ذلك:
1- أن الله عز وجل جعل إبليس مِحنةً يمتحن به خلقه، ليتبين الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف، ويجازي العباد وفق أعمالهم، لا بمقتضى علمه بهم، ولولا إغواء إبليس للناس لم يكن هناك تمحيص.
2-أن يكمل الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة الشيطان وحزبه، ومخالفته ومراغمته وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به سبحانه من الشيطان، والالتجاء إليه سبحانه أن يعيذهم من شر الشيطان وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يمكن أن يحصل لهم بدون خلق الله له.
3- تحقيق فضيلة الصبر والمصابرة والمجاهدة، وهي من معاني العبودية لله عز وجل التي تحصل بمدافعة إبليس ووسوسته، فلو لم يخلق الله عز وجل إبليس، فاتت هذه المراتب من العبودية من مجاهدة الشيطان.
4- إظهار بعض صفات الله من حلمه وحكمته وعفوه ومغفرته لمن يستزلهم الشيطان، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم" مسلم (2749).
وقد ذكر الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، كلاما مفصلا نافعا، عن بعض وجوه الحكمة في خلق إبليس اللعين، ذكرنا بعضه فيما سبق، ومن أراد الكلام بتمامه فليراجع كتابه: "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (2/245) وما بعدها. وينظر أيضا: "مختصر الصواعق المرسلة" (245) وما بعدها.
والله اعلم