هل من الصحابة من فسر القرآن كاملا ؟ واذا كان هناك من فسر فلماذا يأتي المعاصرون وغيرهم ويفسرون مثل ابن كثير والطبري الخ... لأن ما هنالك احد أعلم من الصحابة ولا أتقى إيمانا ومعرفة بوقت نزول الآية وسببها
الحمد لله.
رفع هذا الإشكال يقتضي معرفة حرص النبي على تعليم الصحابة القرآن وفهم معانيه، ثم معرفة طبيعة التفسير في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ونبذة يسيرة عن علم التفسير، وكيفية الوصول إلى معاني كتاب الله، وتعدد التفاسير وتنوعها.
أولًا: حرص الصحابة على تعلم القرآن وفهم معانيه.
للصحبة منزلتها العظمى في الإسلام، ولها شرف لا يخفى على مسلم، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتعلمون تعاليم الدينِ تدريجيًّا، وكان همهم تطبيق ما تعلموه أولًا بأول، ثم ينتقلون إلى أمر آخر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معهم يلاحظهم، ويهديهم بالرفق واللين، ويأمرهم بعدم التشدد، فكانوا أئمة هدى يتعلمون ألفاظه ومعانيه، ويتدبرونه، ويعلمون حلاله وحرامه.
عن أنس رضي الله عنه قال: "كان الرجلُ إذا قرَأَ البَقرة وآل عمران، جَدَّ فينا"، يعني: عظُم ، وفي رواية: "يُعَدُّ فينا عَظيمًا"، وفي أخرى: "عُدَّ فينا ذا شأنٍ"رواه أحمد (12236).
وكما حرصوا على حفظ القرآن الكريم، فقد حرصوا كذلك على فهم معانيه، والعمل به، والوقوف عند أحكامه، لمعايشتهم نزولَ الوحي، ولبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم ما يحتاجون إليه، ولمعرفتهم للغة العرب التي نزل بها القرآن أتم المعرفة، ولرسوخهم في مقامات العلم والإيمان= فهم لذلك كله: كانوا أقرب الناس لمعرفة المراد من كلام الله تعالى.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: "حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَة( رواه أحمد )5/410).
وقد اشتُهر من الصحابة بعلم التفسير: عدد يسير.
قال ابن جزي: "اعلم أن المفسرين على طبقات:
فالطبقة الأولى: الصحابة؛ وأكثرهم كلامًا في التفسير ابنُ عباس، وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس، ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب.
ويتلوهما: عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص" انتهى، من "التسهيل لعلوم التنزيل" (1/20).
وقال السيوطي: "اشتُهر بالتفسير من الصحابة عشرة؛ الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير" انتهى، من "الإتقان في علوم القرآن" (4/223).
وعن مجاهد قال: "كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نورًا" رواه أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 980).
وعن مجاهد قال: "عرَضتُ المصحفَ على ابنِ عباسٍ ثلاثَ عرْضاتٍ مِنْ فاتحتِه إلى خاتمتِه، أُوقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ، وأسألُه عنها..." أخرجه أبو داود (2164) بنحوه.
وكذلك ممن اشتهر بالتفسير عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. يقول عن نفسه: "والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه" أخرجه مسلم (1463).
ثانيًا: منهج الصحابة رضي الله عنهم في التفسير.
كان لشهود أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقائع الوحي، وفهمهم الجيد للدعوة النبوية، ومشاركتهم في الدعوة، ونزول القرآن بلغتهم، وذوقهم لفنون الخطاب الذي هم أهله، ومعدِنه: أثر ظاهر في فهمهم لمعاني القرآن.
وكذلك: كان الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده فقهاء وقراء وقضاة ومعلمين. انظر: "علوم التفسير" عبد الله شحاته (ص17).
وقد لخص العلماء الأسباب المنطقية الداعية إلى رجوع المفسر إلى أقوال الصحابة، وهي:
1. أنهم شهدوا التنزيل وعرفوا أحواله.
2. أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن.
3. أنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن من العرب واليهود.
4. سلامة المقصد.
5. حسن فهمهم.
انظر: "فصول في التفسير" مساعد الطيار(1/46).
وهذه الأسباب وغيرها تجعل لأقوال الصحابة مرجعية، ومعيارية في تفسير القرآن الكريم.
إلا أنه ينبغي الانتباه إلى أن عمل الصحابة في التفسير، يختلف اختلافًا كبيرًا عن عمل من جاء بعدهم.
فالعمل التفسيري لأغلب الصحابة المفسرين: لم يأخذ الشكل المرتب، المسلسل، الذي أقيمت في إطاره التفاسير المعروفة، حيث يعمل المفسر في تفسيره القرآن الكريم كله أو أغلبه، كلمة كلمة، وآية آية وسورة سورة، وإنما قام أغلب الصحابة المفسرين بتفسير ما ظهر وجه الحاجة إلى تفسيره، وما يسألون عنه من معاني الآيات أو ألفاظها وتعبيراتها، أو الأحكام الواردة فيها. وذلك من أقرب طريق دون إسهاب.
وكذلك كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا لا نفهم أن النبي فسر لأصحابه كل لفظة في القرآن الكريم، كالماء والجبل والحجر والشجر كما أقرأهم إياها، فلا جديد في معاني هذه الكلمات، ولا وجوه الأساليب الدائرة في كتاب الله الكريم، فهي بلسانهم الذي يعلمونه، ويعهدون طرائقه.
وإنما بيَّن النبيُ صلى الله عليه وسلم معاني القرآن التي تحتاج إلى بيان، أما ما لا يحتاجون هم إلى بيانه، وهو كثير في القرآن؛ فلم يكن ثمَّ معنى للاشتغال ببيانه. وهذا واضح.
والصحابة يعرفون عامة معاني القرآن بمقتضى معرفتهم بكلام العرب، حيث لم تنقل الألفاظ عن معانيها وموارد استعمالها. ومعرفتهم بأسباب التنزيل، ومشاهدتهم لأحواله ولو بينها لهم جميعًا، لم يختلف الصحابة والتابعون في شيء من التفسير.
يقول أبو عبيدة: "فلم يحتج السلف، ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم= أن يسألوا عن معانيه؛ لأنهم كانوا عربَ الألسُن؛ فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله" انتهى، من "مجاز القرآن" (1/8).
وفي نص مشابه يصف ابن خلدون المراحل التي مر بها علم التفسير:
"وأما التفسير: فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم؛ فكانوا كلُّهم يفهمونه ويعلمون معانيه، في مفرداته وتراكيبه.
وكان ينزل جملًا.... وكان النبي هو المبين لذلك .. فكان النبي يبين المجمل، ويميز الناسخ عن المنسوخ ويعرفه أصحابه. فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات، ومقتضى الحال منها.
ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم.
ولم يزل متناقلًا بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علومًا، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين. وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوا من الآثار" انتهى، من "المقدمة" (ص1130).
ولهذا نجد أن تفسير الصحابة تميز بعدد من الخصائص:
1. لم يشمل تفسيرهم القرآن كله؛ حيث إن كثيرًا من الآيات واضحة لدى أهل عصرهم، لا تحتاج إلى تفسير لعلمهم ومعرفتهم باللغة.
2. كان تفسيرهم مختصرًا، مقصورًا على بيان اللفظ الغامض، أو الحكم المشكل، ونحو ذلك.
3. قلة تدوينهم للتفسير، حيث كان التفسير يُتناقل شفاهيًا.
ويمكن تقسيم الصحابة إلى قسمين:
1. قسم اشتهر عنهم العلم بالتفسير والتصدي له، ووصلنا فيه عنهم الشيء الكثير على تفاوت فيه بينهم، كابن عباس، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبي بن كعب.
2. قسم لم يُشتهر عنهم التفسير، ووصلنا عنهم فيه نذر يسير، كأبي بكر، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
ثالثًا بعض استدراكات النبي صلى الله عليه وسلم التي استفاد منها الصحابة في التفسير:
النبي صلى الله عليه وسلم كان يفسر القرآن على وجهه المراد منه ، ويستدرك على أصحابه ما خالفوا فيه الصواب.
ومن استدراكات النبي صلى الله عليه وسلم، استفاد الصحابة طرقًا يعتمدون عليها في تفسير القرآن. ومن أمثلة هذه الاستدراكات، ما جاء في تفسير قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ الأنعام/ 82:
فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك ، وفي لفظ: ليسَ كما تَظُنُّونَ؛ إنَّما هو كما قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لقمان/13، إنما هو الشركُ أخرجه البخاري (6937)، ومسلم (124).
وفي هذا الاستدراك العديد من المسائل التي تكشف لنا الطرق المسلوكة في بيان معاني القرآن:
أولًا: تفسير كلام الله تعالى وفهمه يكون بحسب المشهور المتبادر من لسان العرب الذي نزل به القرآن، وهذا ما فعله الصحابة في فهمهم لكلمة الظلم، ولم ينههم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يفسروا القرآن بلغتهم.
ولذلك يقول ابن حجر: "والذي يظهر لي: أنهم -أي الصحابة- حملوا اللفظ على عمومه، الشرك فما دونه ...، وإنما حملوه على عمومه لأنها نكرة في سياق النفي" انتهى، من "النكت على صحيح البخاري" (1/316)؛ فلو كان هذا المسلك خاطئا، لنبههم النبي صلى الله عليهم، كما لم يتغير هذا الفهم من الصحابة إلا بالنقل الشرعي لكلمة الظلم بحسب التفسير النبوي.
ثانيًا: التفسير اللغوي لا يقدم على التفسير النبوي الصريح بحال.
ثالثًا: في قوله صلى الله عليه سلم لأصحابه: ألم تسمعوا ما قاله العبد الصالح... ثم تفسيره الظلم بالشرك = تنبيه للصحابة على هذه الطريقة في التفسير، وقد كان بالإمكان حصول البيان منه صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك، ولكنه شرع صلى الله عليه وسلم لمن بعده مسلكًا مهمًا في تبيين المشكلات وإيضاح المبهمات، بل هو أولى طرق بيان القرآن الكريم.
قال ابن تيمية: "فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكان، فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختُصِر في مكان، فقد بسط في موضع آخر" انتهى من، "مقدمة التفسير" (ص39).
انظر: "شرح مقدمة التفسير لابن تيمية مساعد الطيار (1/187).
ونقل الشنقيطي إجماع العلماء على أن بيان القرآن بالقرآن أشرف أنواع التفسير وأجلها "إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا". انتهى، من "أضواء البيان" (1/8).
رابعًا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتأولون القرآن على لغتهم، فإذا أشكل عليهم منه شيء، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينه لهم. وهذا يحدد كما سبق بيانه نوع ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن للصحابة، وهو ما أشكل عليهم واحتاجوا فيه إلى بيان من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قليل. انتهى، من "استدراكات السلف في التفسير" (39-46)، لنايف الزهراني. باختصار.
من خلال هذا الاستدراك، وغيره مما هو مبثوث معروف في كتب الحديث وتتبع أقوال الصحابة، يتبين أنهم يرجعون في تفسير القرآن الكريم إلى هذه المصادر:
1. القرآن الكريم.
2. السنة النبوية.
3. اللغة العربية.
4. معارف أهل الكتاب.
5. الفهم والاجتهاد.
فالكلام في التفسير لا بُدَّ أن يكون بعلم ودليل، والمتكلم في كتاب الله تعالى بغير علم متعرض لأشد الوعيد قال الله تعالى: قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ الأعراف/ 33، وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ومَن قال في القرآنِ برأيِّهِ، فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّارِ أخرجه الترمذي (2951)، وأحمد (2976).
قال الطبري: "وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه، من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة". انتهى، من "جامع البيان" (1/499).
والصحابة يعدون مصدرًا لمن جاء بعدهم، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وحينئذ؛ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعت إلى اقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم" انتهى، من "مقدمة في أصول التفسير" (ص44).
ثالثًا: الأطوار التي مر بها علم التفسير:
علم التفسير هو علم بيان المراد من معاني القرآن الكريم وينقسم إلى قسمين:
أولًا: أصول التفسير، وهي طرق بيان المراد من معاني القرآن الكريم، وكيفية استفادة المعاني منها، وذلك يشمل معرفة الأدلة التي تثبت بها المعاني، وكيفية استعمالها.
ثانيًا: متن التفسير، وهو المعاني القرآنية المرادة التي يُتوصل إليها بإعمال أصول التفسير.
ولهذا ينبغي أن يُعلم أن المعلومات المذكورة في كتب التفسير متنوعة، ففيها ما يتعلق ببيان المعاني القرآنية، فهذا هو التفسير، وهو المقصد الأهم منها، ومعظم ما فيها.
ومنها: ما له تعلق بأصول التفسير وعلوم القرآن المختلفة، فهذا خارج عن مفهوم التفسير الذي هو بيان معاني القرآن الكريم، ولهذا نجد تفاوتًا كبيرًا بين كتب التفسير، من حيث البسط والاختصار، والمنهج المعتمد عند المفسر وغيرها من موارد الاختلاف.
وفي تعدد التفاسير وتنوعها، يقول أبو حيان: "ثم تتابع الناس في التفسير، وألفوا فيه التآليف، وكانت تآليف المتقدمين: أكثرُها إنما هي في شرح اللغة، ونقل سبب، ونسخ، وقصص؛ لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب وبلسان العرب.
فلما فسد اللسان، وكثرت العجم، ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة، والناقصو الإدراك= احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التراكيب، وانتزاع المعاني، وإبراز النكت البيانية، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها، ولا عُنصره يحركه إليها" انتهى، من "البحر المحيط" (1/25).
وهذا نص غني عن البيان، يدلك على موضع حاجة من جاء من بعض الصحابة، إلى أن يكون كلامهم في "علم التفسير" أكثر من علم الصحابة، وحاجتهم إلى بيان المعاني، أشد وأعظم من حاجة الصحابة؛ فما كان معلوما لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبق معلوما لمن بعدهم، وما كان سليقة عند القوم، لم يعد يدرك لمن بعدهم إلا بتعلم، وتكلف، ودربة طويلة.
ومع كثرة الفتوح الإسلامية، واتساع رقعة بلاد المسلمين، ودخول كثير من الأعاجم الإسلام، واختلاط العرب بغيرهم، وتأثر معرفتهم باللسان العربي = ازدادت الحاجة إلى بيان كثير من معاني القرآن، مما كان واضحًا جليًا في عصر الصحابة فلم يتعرضوا له بتفسير.
نستنتج من ذلك أن الصحابة الكرام لم يفسروا القرآن كاملًا، على ما نفهم اليوم، ونعنيه من الاشتغال التفسيري، وخصوص علمه؛ وإنما اقتصروا على تفسير معاني بعض الآيات تفسيرًا مجملًا، فهم فسروا ما احتاج إليه الناس.
وقد كثرت الرواية في التفسير عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، إلا أن ما روي عنهم لا يتضمن تفسيرًا كاملًا للقرآن.
انظر: "مباحث في علوم القرآن"، مناع القطان (1/7).
فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا يتحركون داخل الإطار الصحيح من ضوابط التفسير، ولم يستطردوا إلى معالجة علوم ومعارف وقضايا حول النص، لم تكن ظهرت بعد. انظر: تطور تفسير القرآن الكريم قراءة جديدة، محسن عبد الحميد، (ص38).
ختامًا:
بعد هذا العرض المختصر لا نجزم بأنه قد وصلنا كل ما قاله الصحابة رضي الله عنهم في التفسير، إذ لا زال الكثير من كتب المرويات في التفسير مفقودًا، أو لم نعثر عليه فهو في حكم المفقود، وكلما مرت الأيام كشفت لنا عن شيء من هذه الدرر.
يقول الإمام السيوطي، وهو الإمام المشهور والمتفنن في الجمع والاستقصاء، والذي حفظت لنا كتبه كثيرًا مما فقدته المكتبة الإسلامية:
"لا أحفظ عن أبي بكر رضي الله عنه في التفسير إلا آثارًا قليلة جدًا، لا تكاد تجاوز العشرة" انتهى، من "الإتقان في علوم القرآن" (4/232).
وقد وجد لأبي بكر اليوم أكثر من ثلاثين قولًا في التفسير في النصف الأول من القرآن فقط. انظر: "المفسرون من الصحابة عبد الرحمن المشد" (ص22-23).
والله أعلم.