الحمد لله.
هذه العبارة وردت في كتاب الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة رحمه الله، بهذا النص:
"وَالله تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وهم فِي الْجنَّة بأعين رؤوسهم، بِلَا تَشْبِيه وَلَا كَيْفيَّة، وَلَا يكون بَينه وَبَين خلقه مَسَافَة" "الفقه الأكبر" (ص53).
وفي بعضها بهذا النص المذكور: "وَالله تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وهم فِي الْجنَّة بأعين رؤوسهم بِلَا تَشْبِيه وَلَا كَيْفيَّة ولا كمية، وَلَا يكون بَينه وَبَين خلقه مَسَافَة" " شرح الفقه الأكبر لما علي القاري" (ص: 137).
ولبيان الأمر نوضح مسألتين.
أولاً:
نفى كثير من العلماء المحققين نسبة كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ومن هؤلاء بعض علماء المذهب الحنفي المحققين، كالكشميري صاحب فيض الباري بشرح صحيح البخاري.
وكتاب الفقه الأكبر لا يرويه عن أبي حنيفة سوى أبي مطيع البلخي، وعنه أخذ علماء المذهب الحنفي.
وأصل الشك في نسبة الكتاب لأبي حنيفة هو أنّ أبا مطيع البلخي ضعيف في الحديث، متهم في عقيدته.
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله:" الحكم بن عبد الله ابن مسلم، أبو مطيع البلخي الخراساني الفقيه صاحب أبي حنيفة رحمه الله تعالى...، وكان بصيرا بالرأي، علامة، كبير الشأن، ولكنه واه في ضبط الأثر...، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة ضعيف: وقال البخاري: ضعيف، صاحب رأي. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن الجوزي في الضعفاء: الحكم بن عبد الله بن سلمة، أبو مطيع الخراساني القاضي، يروي عن إبراهيم بن طهمان وأبي حنيفة ومالك. قال أحمد: لا ينبغي أن يروي عنه شيء. وقال أبو داود: تركوا حديثه، وكان جهميا. وقال ابن عدي: هو بيِّنُ الضعف، عامة ما يرويه لا يتابع عليه. قال ابن حبان: كان من رؤساء المرجئة، ممن يبغض السنن ومنتحليها. وقال العقيلي: حدثنا عبد الله ابن أحمد سألت أبي عن أبي مطيع البلخي؟ فقال: لا ينبغي أن يروى عنه، حكوا عنه أنه يقول: الجنة والنار خلقتا، فستفنيان. وهذا كلام جهم" انتهى من "لسان الميزان" (2/ 334).
واتهمه الذهبي بوضع الحديث نصرة لبدعته في مسألة زيادة الإيمان. (ميزان الاعتدال 3/ 42).
قال العلامة أنور شاه الكشميري الحنفي رحمه الله: "وأما ما نسب إلى أبي حنيفة في الفقه الأكبر فالمحدِّثون على أنه ليس من تصنيفه. بل من تصنيف تلميذه أبي مطيع البلخِي، وقد تكلم فيه الذهبي، وقال: أنه جَهْمِيٌّ. أقول: ليس كما قال، ولكنه ليس بحجةٍ في باب الحديث، لكونه غير ناقد. وقد رأيت عدة نُسخ للفقه الأكبر، فوجدتُها كلها متغايرة. وهكذا "كتاب العالم والمتعلم" "والوسيطين" الصغير والكبير، كلها منسوبة إلى الإمام، لكن الصواب أنها ليست للإمام" انتهى من "فيض الباري على صحيح البخاري" (1/134).
ونسبة كتاب "الفقه الأكبر" لأبي مطيع البلخي، هي التي اعتمدها الإمام الذهبي، رحمه الله. قال في كتابه "العلو" (135): " وبلغنا عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب (الفقه الأكبر)، قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: الرحمن على العرش استوى؛ وعرشه فوق سمواته. فقلت: إنه يقول أقول على العرش استوى، ولكن قال لا يدري العرش في السماء أو في الأرض؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر!!". انتهى.
قال الشيخ الألباني، رحمه الله في "مختصر العلو" (136-137): " وفي قول المؤلف: "صاحب الفقه الأكبر": إشارة قوية إلى أن كتاب "الفقه الأكبر" ليس للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، خلافا لما هو المشهور عند الحنفية، وقد طبع عدة طبعات منسوبا إليه، ومشروحا من غير واحد من الحنفية، منهم أبو منصور الماتريدي الذي ينتمي إليه أكثر الحنفية في العقيدة، وجمهورهم فيها من المؤولة، فترى أبا منصور هذا قد تأول قول أبي حنيفة المذكور في الكتاب وفي "الفقه الأكبر" تأويلا يعود إلى إفساد كلام أبي حنيفة وإخراجه عن جماعة السلف في عدم التأويل، فقال في تأويل قوله رحمه الله: "فقد كفر" "ص19 طبع مصر": "لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له مكان فكان مشركا"! ولم يلتفت إلى تمام كلامه المبطل لتأويله وهو قوله رحمه الله: "لأن الله تعالى يقول: الرحمن على العرش استوى .
قلت: فهذا صريح في أن علة كفره إنما هو إنكاره لما دلت هذه الآية صراحة من استعلائه سبحانه على عرشه، لا لأنه يوهم أن له تعالى مكانا، سبحانه وتعالى عن ذلك. ولما ذكرنا قال شارح الطحاوية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر رواية أبي مطيع البلخي "ص323 طبعة المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة": "ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره".
قلت: والقصة المشار إليها تأتي في الكتاب قريبا في ترجمة أبي يوسف إن شاء الله تعالى. وفيها دلالة على أن أصحاب أبي حنيفة الأول كانوا مع السلف في الإيمان بعلوه تعالى على خلقه، وذلك مما يعطي بعض القوة لهذه الروايات المروية عن الإمام أبي حنيفة، ومن ذلك تصريح الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي في عقيدته بأن الله تعالى مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه."انتهى.
وقال الشيخ أبو زهرة رحمه الله: "ويجب التنبيه: إلى أن نسبة الفقه الأكبر إلى أبى حنيفة موضع نظر عند العلماء، فلم يتفقوا على صحة نسبة هذا الكتاب إليه، ولم يدع أحد الاتفاق على صحة هذه النسبة، حتى أشد الناس تعصباً له، ورغبة في زيادة آثاره وكتبه...،
فالنسبة إذن موضع شك أو إنكار عند بعض العلماء...، واختلافهم بشأنه، واختلاف الروايات فيه، ومقدار قوة هذه الروايات.
والدقة توجب علينا أن نلتفت التفاتة سريعة إلى ما حواه متنه، أتصح نسبته كله إلى أبي حنيفة أم أن في هذا المتن ما يشير إلى أن نسبته كله لأبي حنيفة موضع نظر أو شك... ونرى في الفقه الأكبر تصدياً لمسائل لم يكن الخوض فيها معروفاً في عصره ولا العصر الذي سبقه، فلم نجد فيمن قبله ولا من معاصريه من المصادر التي تحت أيدينا من تصدى لها؛ لهذا لا نريد أن نستقي آراء أبي حنيفة في العقائد من "الفقه الأكبر" أو "العالم والمتعلم" فقط" انتهى باختصار من " أبو حنيفة حياته وعصره" (187-189).
وبناء على ما سبق: فإن ثبوت الكتاب للإمام أبي حنيفة محل شك كبير، فالشك في نسبة العبارة إليه كذلك.
وينظر جواب السؤال (174919)
ثانياً:
العبارة المذكورة -(والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة)- تناقلها علماء الأحناف في كتبهم العقدية على اختلاف في بعض الالفاظ زيادة ونقصاً.
وأغلب نسخ كتاب الفقه الأكبر الذي نُقل عنها القول المنسوب لأبي حنيفة ليس فيها لفظ (ولا كمية)؛ بل العبارة في المثبتة "بلا تشبيه ولا كيفية". وعليه تكون العبارة إلى قوله "بلا تشبيه ولا كيفية" صحيحة، وموافقة لعقيدة السلف في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.
وجاء في بعض النسخ لفظ (ولا كمية) كما في النسخة التي شرح عليها ملا علي القاري كتاب الفقه الأكبر.
والكمية مصطلح فلسفي يستخدمه علماء الكلام ويريدون به الجسم والأبعاض والأجزاء.
جاء في شرح العقيدة الطحاوية" (ص962 بترقيم الشاملة): "فقولهم بلا كمية، يقصدون به -حسب زعمهم- تنزيه الله عن الجسم والأبعاض والأجزاء.
والماتريدية يثبتون الرؤية، ويقولون: يُرى الله في الآخرة بلا جهة، ولا مسافة، ولا جسم. انظر (التوحيد لأبي منصور الماتريدي. ص: 83).
قال أبو المعين النسفي: (في العقل دليل على جواز رؤية الله تعالى، وقد ورد الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين الله تعالى في الدار الآخرة، فيرى لا في مكان، ولا على جهة؛ من مقابلة أو اتصال شعاع، أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى، وغير ذلك من المعاني التي هي من أمارات الحدث). انتهى من "التمهيد لقواعد التوحيد" (ص: 38).
وهذه من العقائد الفاسدة التي تبعوا بها أقوال الجهمية النفاة، وتخالف ما عليه عقيدة السلف من الإعراض عن هذه المصطلحات الفلسفية، فلا يثبتون ولا ينفون إلا ما ورد الدليل بنفيه أو إثباته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الاعتماد في تنزيه الباري على نفي الجسم طريقة مبتدعة في الشرع، متناقضة في العقل فلا تصح لا شرعا ولا عقلا. أما الشرع فإنه لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف والأئمة، بل الكلام في صفات الله بنفي الجسم أو إثباته بدعة عند السلف والأئمة، ولو كان ذلك مما يعتمد في الشرع لدل الشرع عليه" انتهى من "الصفدية" (2/ 33).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ولسنا نقول: - ربنا - جوهرا أو عرضا أو جسما، يعني لا نقول بذلك بل نسكت، وهذا الوجه صحيح، يعني لا يجوز لنا أن ننفي أن الله جوهر أو عرض أو جسم، كما لا يجوز لنا أن نثبت ذلك؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا السنة إثبات ذلك ولا نفيه، والمعتمد في صفات الله هو الكتاب والسنة، فإذا لم يرد فيهما إثبات ولا نفي، وجب علينا أن لا نقول بالإثبات ولا بالنفي" انتهى من "شرح العقيدة السفارينية" (1/ 223):
وأما قوله (بلا مسافة)، فهذه العبارة أراد بها -حسب زعمهم- نفي الجهة، حيث قالوا إن إثبات الرؤية بمسافة يلزم منه إثبات الجهة، وقولهم هذا تبعاً لقولهم بإنكار العلو، وهذا مخالف لما تقرر في عقيد السف من إثبات العلو لله عز وجل، وأنهم يقرون رؤية الله وهو في علوه.
والقول بأن الله يُري يوم القيامة من غير جهة، هو قول الاشاعرة والماتريدية، وقد خالفوا فيها مذهب السلف ومعتقد أهل السنة والجماعة.
وأما أهل السنة، السائرون على مذهب السلف: فيقولون إن الله تعالى يُرى يوم القيامة وهو في علوه.
قال ابن القيم رحمه الله: "وكذلك قولهم: "ننزهه عن الجهة"، إن أردتم أنه مُنزهٌ عن جهة وجودية، تحيط به وتحويه وتحصره، إحاطة الظرف بالمظروف؛ فنعم، هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى.
ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى.
وإن أردتم بالجهة: أمرًا يوجب مباينة الخالق للمخلوق، وعلوّه على خلقه، واستواءه على عرشه؛ فنفيكم لهذا المعنى باطل، وتسميته جهةً: اصطلاح منكم، توسلتم به إلى نفي ما دلَّ عليه العقل والنقل والفطرة، وسمّيتم ما فوق "العالم" جهةً وقلتم منزهٌ عن الجهات" انتهى من "مختصر الصواعق" (ص:142).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"والقول في الجهة : فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعها على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله.
وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ومثل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255]، ومثل قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17] إلى غير ذلك من الآيات...
والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية.
ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم" انتهى من «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (1/248).
والخلاصة:
أن العبارة المذكورة في السؤال التي ذُكرت منسوبة للإمام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر، ونسبة الكتاب إلى الإمام محل نظر.
وأما العبارة، على ما يشرحها به الماتريدية: فمنتقدة، غير صحيحة!
والله أعلم