تم تأجير شقة، وتم دفع مبلغ تأمين، وتم الاتفاق إنه إذا تم انتهاء العقد قبل عام لا يتم رد مبلغ التأمين، وتم إنهاء العقد قبل عام، فما حكم الدين عند عدم رد هذا المبلغ للمستأجر؟
الحمد لله.
أولا :
هذا المبلغ الذي يأخذه المالك من المستأجر تحت اسم "التأمين" يقصد منه أمران:
1-استيفاء الأجرة منه إذا لم يسدد المستأجر الأجرة، أو لم يدفع ما عليه من ثمن الكهرباء والماء.
2-أنه لو أتلف المستأجر شيئا من الشقة المؤجرة، فإن المالك يستوفي التعويض من هذا المبلغ.
وعلى هذا؛ فيكيّف التأمين على أنه رهن، وعلى المالك أن يحتفظ به، ولا يجوز له أن يستعمله.
وقد اشترط المالكية لجواز رهن النقود: ألا يستعملها المرتهن، وعللوا ذلك بسد الذريعة لاحتمال أن يكون مقصودهما القرض، وهذا هو الواقع في بلد السائل، فالمستأجر يعلم أن المؤجر يأخذ النقود وينتفع بها، ويلتزم رد بدلها، فيكون المال قرضا، لا رهنا؛ لأن القرض هو "دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله" انتهى من "الروض المربع" (5/36).
جاء في "الموسوعة الفقهية" (41/ 192):
"وأما المالكية فقالوا: يجوز رهن النقود، سواء جعلت في يد عدل أو في يد المرتهن.
واشترطوا لصحة رهنها: أن يختم عليها ختما محكما، بحيث متى أزيل الختم عُرف ذلك.
وإنما اشترطوا ذلك حماية للذريعة، لاحتمال أن يكونا قصدا به السلف، وسمياه رهنا، والسلف مع المداينة ممنوع" انتهى.
فإذا ثبت أن هذا التأمين قرض؛ لدخول الطرفين فيه على علم أن المؤجر سيستعمله، ويضمن بدله: كانت المعاملة بهذه الصورة محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين القرض والبيع .
روى الترمذي (1234)، وأبو داود (3504)، والنسائي (4611) عن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وصححه الترمذي، والألباني.
والإجارة بيع للمنافع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "القواعد النورانية" (211) : "فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع , فإذا جمع بين سلف وإجارة: فهو جمع بين سلف وبيع، أو مثله" انتهى.
فعلى الطرفين أن يتوبا إلى الله تعالى من هذه المعاملة المحرمة، ومن توبتهما: أن يرد المالك المبلغ إلى المستأجر، أو يتفقا على تحويله إلى رهن، ويكون أمانة عند المالك، يحتفظ به، ولا يجوز له أن يستعمله.
أو يتفقا على جعله جزءا من الأجرة، يخصم منه كل شهر جزءا، أو يتفقا على أنه أجرة الشهر أو الأشهر الأخيرة.
فإن لم يجد المستأجر من يؤجره بيتا إلا بهذا الشرط، كما هو الواقع في كثير من البلدان، كبلدك؛ فلا حرج عليه في أن يدفع الرهن، لكن يعلم المؤجر بما يلزمه فيه، فإن تعدى، فإنما إثمه عليه هو، لا على المستأجر؛ قال الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة/181.
قال القاسمي، رحمه الله: " فَمَنْ بَدَّلَهُ أي: فمن غيّر الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقا للشرع، من الأوصياء والشهود ( بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) أي بعد ما وصل إليه ، وتحقق لديه : ( فَإِنَّما إِثْمُهُ ) أي التبديل ( عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) ؛ لأنهم خانوا ، وخالفوا حكم الشرع، فلا يلحق الموصي منه شيء، وقد وقع أجره على الله .
( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ): وعيد شديد للمبدّلين". انتهى، من "محاسن التأويل" (2/13).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (281176).
ثانيا :
الإجارة عقد لازم للطرفين، فلا يجوز لأحدهما فسخ العقد إلا برضى الطرف الآخر.
قال ابن قدامة في "المغني" (5/260) : " الْإِجَارَة عَقْدٌ لَازِمٌ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الْمُؤَجِّرِ الْأَجْرَ , وَالْمُسْتَأْجِرِ الْمَنَافِعَ , فَإِذَا فَسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا , وَتَرَكَ الِانْتِفَاعَ اخْتِيَارًا مِنْهُ , لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ , وَالْأَجْرُ لَازِمٌ لَهُ ... وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ , فَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَهُ . وَإِنْ فَسَخَهُ , لَمْ يَسْقُطْ الْعِوَضُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ , كَالْبَيْعِ " انتهى .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (1/253) : " الأْصْل فِي عَقْدِ الإْجَارَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ اللُّزُومُ ، فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الاِنْفِرَادَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، إِلاَّ لِمُقْتَضٍ تَنْفَسِخُ بِهِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ ، مِنْ ظُهُورِ الْعَيْبِ ، أَوْ ذَهَابِ مَحَل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) " انتهى .
وبناء على هذا؛ فالمستأجر ملزم بالإجارة إلى نهاية المدة، وليس له الفسخ إلا برضا المؤجر، وإن فسخ دون رضاه كان ملزما بدفع الأجرة.
وللمؤجر أن يشرط عليه أنه في حال عدم إكماله المدة: فإنه يستوفي أجرة بقية المدة من الرهن الذي في يده.
وأما أن يستولي على الرهن كله، ولو كان أكثر من أجرة المدة الباقية في العقد، فهذا محرم؛ لأنه إن رفض الفسخ، فليس له إلا أجرة ما بقي؛ فبأي شيء يستحل ما زاد على ذلك؟
وأيضا: فالاستيلاء على جملة الرهن عند عدم أداء الحق، دون مقاصة، محرم بقوله صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه رواه الحاكم في المستدرك (2315) وصححه، وأقره الذهبي.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (4/287): "وإن شرط أنه متى حل الحق ولم يوفني: فالرهن لي بالدين، أو: فهو مَبِيع لي بالدين الذي عليك؛ فهو شرط فاسد.
روي ذلك عن ابن عمر وشريح والنخعي، ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. ولا نعلم أحدا خالفهم.
والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغلق الرهن رواه الأثرم.
قال الأثرم قلت لأحمد: ما معنى قوله: لا يغلق الرهن؟
قال: لا يدفع رهنا إلى رجل، ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك.
قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: لا يغلق الرهن عند مالك والثوري وأحمد.
وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر: أن رجلا رهن دارا بالمدينة، إلى أجل مسمى، فمضى الأجل، فقال الذي ارتهن: منزلي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغلق الرهن" انتهى.
والحاصل:
أن هذا شرط فاسد، وليس للمؤجر من الرهن إلا بقدر أجرة ما بقي من المدة، ويلزمه رد الباقي.
والله أعلم.