هل هناك ذنوب تقصر عمر الإنسان؟ وهل الظلم يقصر من عمر الإنسان حقيقية أم هو مجاز؟ وهل إذا تاب يقصر الله تعالى عمره ؟
الحمد لله.
أولا:
من المعلوم أن الذنوب والمعاصي لها تبعات وعقوبات، منها ما يكون معجلا في الدنيا، ومنها ما يكون مؤجلا إلى الآخرة؛ إلا أن يتجاوز الله تعالى عن عبده.
والعقوبات الدنيوية قد تكون بالمصائب تصيب العبد في نفسه أو ماله أو غير ذلك.
قال الله تعالى:
( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" يخبر تعالى، أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 759).
والظلم من أخطر الذنوب التي قد تعجَّل لأجلها العقوبة الدنيوية.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ).
رواه أبو داود (4902)، والترمذي (2511)، وابن ماجه (4211)، وقال الترمذي:
" هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ".
وهلاك الأمم، وآجالها، ومدتها: كل ذلك مما يقدم الله تعالى أو يؤخره، يقدمها، فيهلكها بمعاصيها. أو يؤخره، فيمدها ويمهلها بطاعاتها.
كما في قول الله تعالى:
( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يونس /98 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" والغرض: أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به، وتضرعوا لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب وأخروا… " انتهى من. "تفسير ابن كثير" (4 / 297).
وقال الله تعالى:
( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) الصافات/148.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ومن فوائدها: أن الإيمان سبب لطول الحياة لقوله: ( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ ) ولا شك أن الإيمان سبب لطول الحياة، لأن نوحًا قال لقومه: ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )، فبين لهم أنه إذا حصل منهم الإيمان والتوبة، غفر الله لهم، وأخرهم إلى أجل مسمى.
وإن لم يفعلوا، أهلكهم الله " انتهى. "تفسير سورة الصافات" (ص315).
وقال الله تعالى:
( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) هود (3).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) قال ابن عباس: يتفضل عليكم بالرزق والسعة.
وقال ابن قتيبة: يُعَمِّرْكُم.
وأصل الإمتاع: الإطالة، يقال: أمتع الله بك، ومتع الله بك، إمتاعا ومتاعا، والشيء الطويل: ماتع، يقال: جبل ماتع، وقد متع النهار: إذا تطاول" انتهى. "زاد المسير" (4 / 75).
وروى البخاري (5986) ومسلم (2557) عَنِ أَنَس بْن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ).
ولفظ: (أَثَرِهِ): المراد بها أجله.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" والنسأ: التأخير. والأثر: الأجل. سمّي بذلك لأنه تابع للحياة.
ومعنى التأخير هنا: في الأجل " انتهى. "اكمال المعلم" (8 / 21).
وقد ورد بلفظ "العمر" و"الأجل"، كما عند الإمام أحمد في "المسند" (21 / 93): عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ).
وعند ابن حبان في صحيحه "الإحسان" (2 / 180 — 181): عَنِ ابن شهاب، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( من أحب أن يُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ وَيُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ فليصل رحمه ).
ويؤيد أن الأثر هنا بمعنى العمر ذاته، ما رواه الإمام أحمد في "المسند" (42 / 153)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْزَمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: (إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ).
وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن مهزم، فمن رجال "التعجيل" وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات" " انتهى.
وما رواه الترمذي (2139): عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ ).
وقال الترمذي: " وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ " انتهى.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" الحديث حسن كما قال الترمذي، بالشاهد من حديث ثوبان " انتهى. "السلسلة الصحيحة" (1 / 288).
وحديث ثوبان هذا رواه ابن ماجه (90)، والإمام أحمد في "المسند" (37 / 95)، وابن حبان في صحيحه "الاحسان" (3 / 153): عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ ).
وقال محققو المسند: "حسن لغيره ".
ثانيا:
استشكل طائفة من أهل العلم الزيادة في الأجل، ورأوا أن معنى النصوص السابقة في زيادة الأجل: زيادة بركته، فينتفع الطائع والبارّ بعمره مهما قصر، كمثل ما ينتفع به طويل العمر أو أفضل.
وحجتهم في هذا التفسير هو أن هناك نصوصا تنص على أن الآجال لا تؤخر.
كقول الله تعالى:
( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) الأعراف (34).
وقول الله تعالى:
( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) النحل (61).
وكما عند الإمام مسلم (2663) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ) ينسأ مهموز، أي: يؤخر.
والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها.
وبسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه.
وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور؛ وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة، لا تزيد ولا تنقص: ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )؟
وأجاب العلماء: بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك ... " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (16 / 114).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ )، والجمع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك.
ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمارَ أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر.
وحاصله: أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت.
ومن جملة ما يحصل له من التوفيق: العلم الذي يُنتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح. وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى ... " انتهى. "فتح الباري" (10 / 416).
لكن يَرِد على ذلك أن البركة أيضا مقدرة، ومكتوبُ مقدارها للعبد قبل أن يخلق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقد قال بعض الناس: إن المراد به البركة في العمر، بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الكثير، قالوا: لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان.
فيقال لهؤلاء: تلك البركة، وهي الزيادة في العمل والنفع، هي أيضا مقدرة مكتوبة، وتتناول لجميع الأشياء " انتهى. "مجموع الفتاوى" (14 / 490).
وقال القرافي رحمه الله تعالى:
" من العلماء من يقول: إنما ذلك بزيادة البركة فيما قدر في الأزل من الرزق والأجل، وأما نفس الأجل والرزق المقدرين فلا يقبلان الزيادة.
قلت: وهذا الجواب عندي ضعيف؛ بسبب أن البركة أيضا من جملة المقدرات، فإن كان القدر مانعا من الزيادة، فليمنع من البركة في العمر والرزق، كما منع من الزيادة فيهما، بل هذا الجواب يلزم منه مفسدتان:
إحداهما: إيهام أن البركة خرجت عن القدر، فإن المجيب قد صرح بأن تعلق القدر مانع، فحيث لا مَنْعَ، لا قَدَر، وهذا رديء جدا ... " انتهى من "الفروق" (1 / 339).
وأما ما ذكروه من الآيات السابقة: فإنها تحمل على أن الأجل لا يؤخر إذا حلّ الموت، وحانت ساعته، التي هي ساعته، كما هو نص الآية: ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ).
وأما من لم يحن أجله، فلا تتناوله الآية.
قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإتيوبي رحمه الله تعالى:
" فإن قلت: فعلام يُحمل ما تقدّم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدّم، ولا يتأخّر، ومن ذلك قوله عز وجل: ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ).
قلت: قد أجاب عن ذلك بعض السلف، وتَبعَه بعض الخلف، بأن هذه الآية مختصّة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدّم، ولا يتأخَّر عند حضوره، ويؤيّد هذا أنها مقيّدة بذلك، فإنه قال: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا )، وقوله سبحانه وتعالى: ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ).
فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لا يتأخّر، ولا يتقدّم، وفي غير هذه الحالة، يجوز أن يؤخّره الله بالدعاء، أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدّمه لمن عمل شرًّا، أو قَطَع ما أمر الله به أن يوصل، أو انتهك محارم الله سبحانه وتعالى.. " انتهى من "البحر المحيط" (40 / 313).
وأما حديث أم حبيبة رضي الله عنها، وما ورد فيه: ( قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ).
فهذا محمول على الارشاد إلى الأنفع، لا على القطع بنفي نفع الدعاء في مثل هذه الأمور، فيكون المقصود أن الأجل مهما تأخر وطال العمر، فله في علم الله تعالى وقت يحل فيه، لن يتعداه، فلا يمكن الفرار منه؛ لأن الموت مكتوب على جميع الناس، بخلاف عذاب القبر، فالناس فيه منهم شقي وسعيد، فينبغي للعبد أن يدعو الله تعالى أن يدخله في زمرة السعداء الذين ينالهم نعيم القبر لا عذابه، ويكون هذا الحديث كقول الله تعالى:
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) الشعراء/205 – 207.
وأثر الدعاء في طول العمر ثابت في نصوص عديدة.
فمن ذلك: ما ورد في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي ) رواه البخاري (5671) ومسلم (2680).
ثم إن حديث أم حبيبة فيه بيان أثر الدعاء في النجاة من الشقاء بعذاب القبر، وهو أيضا مكتوب كحال الأجل والرزق.
عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ... ) رواه البخاري (3208)، ورواه مسلم (2643).
فيحمل حديث أم حبيبة على الارشاد للأنفع.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" فإن قيل: كيف ردها عن سؤال، وعلل بالقدر، وأمرها بسؤال، وهو داخل في باب القدر أيضا؟
فالجواب: أن سؤال ما يجلب نفعا في الآخرة، ويُظهر عبودية من السائل، أولى مما يجتلب به مجرد النفع في الدنيا، فأراد منها التشاغل بأمور الآخرة " انتهى من "كشف المشكل"(1 / 337).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
" أرشدها إلى ما هو الأولى والأفضل، كما نص عليه، ووجهه: أن الثاني أولى وأفضل؛ أنه قيام بعبادة الاستعاذة من عذاب النار والقبر، فإنَّه قد تَعبَّدَنا بها في غير ما حديث، ولم يتعبدنا بشيء من القسم الذي دعت هي به، فافترقا... " انتهى من "المفهم" (6 / 681).
ثالثا:
يتبين مما سبق: أن الزيادة في العمر بأفعال البر من توبة ودعاء وغيره، ونقصانه بأفعال الشر من ظلم وغيره؛ كل ذلك على وجه الحقيقة.
وتلخيص معناه:
أن الله تعالى قدر الأشياء، ومن ذلك الآجال وقدّر أيضا ما يتعلق بها من أسباب، مثل أن يقدّر الله تعالى أن عمر هذا العبد يكون له مقدار معيّن إن فعل كذا، وينقص إن لم يفعل، أو العكس، وستر ذلك عن عبده، ويسَّر له العمل والاختيار في هذه الدار للاختبار، والله أعلم بما سيعمل العبد وماذا سيختار وكتبه.
قال إسماعيل الاصبهاني رحمه الله تعالى:
" ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ).
هذا حديث صحيح.
ويعارضه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
( ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمَلَكُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقُه، وَعَمَلُه - وفي رواية - وَأَجَلُه، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ) .
وفي رواية حذيفة بن أسيد:
( فَلَا يُزَادُ عليه وَلَا يُنْقَصُ ).
والجمع بين الخبرين أن يقال: إن الله إذا أراد أن يخلق النسمة، جعل أجلها إن برت والديها كذا وكذا، وإن لم تبر والديها كذا وكذا دون ذلك. وإن عملت كذا حرمت كذا، وإن لم تعمله رزقت كذا، ويكون ذلك مما يكتب في الصحيفة التي لا يزاد على ما فيها ولا ينقص، ومثل ذلك: ( لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ ).
يقال: إن أراد الله أن يخلق النسمة قال: إن كان منها الدعاء رد عنها كذا وكذا، وإن لم يكن منها الدعاء نزل بها كذا وكذا " انتهى من "الترغيب والترهيب" (1 / 274 – 275).
وبمثل هذا قال قبله الطحاوي رحمه الله تعالى في "شرح مشكل الآثار" (8 / 82).
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وقيل: هذا على ما سبق به العلم والقدر؛ أنه إن وصل رحمه فأجله كذا، وإن لم يصل فكذا؛ وفى علم الله - تعالى - أنه لابد له من أحد الحالين، على ما سبق له في أم الكتاب.
وهذا مثل ما سبق من السعادة والشقاوة، مع تكليف العمل والطاعة، ونهيه عن المعصية، وقد سبق له في أم الكتاب ما سبق من سعادة أو شقاوة؛ ولذلك قال العامل: فلِمَ العمل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ).
وهذا هو الوجه الصحيح في الحديث " انتهى من "إكمال المعلم" (8 / 21).
الخلاصة:
لا شك أن الهلاك كالأمراض قد يكون بسبب الذنوب، كما أن الإقلاع عنها قد يمتع به الإنسان متاعا حسنا إلى أجل مسمّى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والعمر يُطَوَّل، والرزق يُبسط: بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح.
كما أن الهلاك والإغراق: استحقه قوم نوح بالكفر والتكذيب، وقد قال: ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) الآية، وقال: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْسَأ لَهُ فِي عُمْرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ).
والله يعلم ما كان، وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون، والله أعلم " انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" (1 / 386).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" وإن كان الأجل قد فرغ منه، فإن الدعاء بطول البقاء قد صح.
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بطول العمر، والله يمحو ما يشاء ويثبت.
فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، و( لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ )، والكتاب الأول: فلا يتغير " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (8 / 219).
والله أعلم.