الحمد لله.
قال الله تعالى، في سياق قصة لوط مع قومه: ( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) الحجر/61-72.
قال ابن عاشور، رحمه الله: " قضينا قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي ب (إلى) . والتقدير: وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه، أي إلى لوط- عليه السلام، أي أوحينا إليه بما قضينا.
وذلك الأمر إبهام للتهويل. والإشارة للتعظيم، أي الأمر العظيم.
وأن دابر هؤلاء مقطوع جملة مفسرة ل ذلك الأمر وهي المناسبة للفعل المضمن وهو (أوحينا) . فصار التقدير: وقضينا الأمر وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع.
فنظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله: ذلك الأمر من الإبهام والتعظيم.
ومجيء جملة دابر مفسرة مع صلوحية أن لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل (أوحينا) المقدر المضمن، فتم بذلك إيجاز بديع معجز.
والدابر: الآخر، أي آخر شخص.
وقطعه: إزالته. وهو كناية عن استئصالهم كلهم، كما تقدم عند قوله تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا في سورة الأنعام [45] .
وإشارة هؤلاء إلى قومه.
ومصبحين داخلين في الصباح، أي في أول وقته، وهو حال من اسم الإشارة.
ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده فأخذتهم الصيحة مشرقين". انتهى، من "التحرير والتنوير" (14/65).
ومراد لوط عليه السلام بعرض بناته، سواء كان المراد بهن: نساء أمته، أو كان المراد: بناته لصلبه؛ فالمراد ـ بكل حال ـ هو رغبته إليهم أن يتزوجوا النساء، زواجا حلالا، يستعفون به عما فيه من الفحش والخنا. وإلا؛ فلا معنى أن ينهاهم عن منكر، لم يصلوا به إلى "بناته"؛ ويبيح لهم المنكر في بناته، وأهل بيته؛ هذا ليس من فعل العقلاء؛ حاشا أنبياء الله عليهم السلام، الذين هم سادة الناس طهرا، وحكمة.
قال الطبري رحمه الله: ": قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي = يعني نساء أمته = فانكحوهن فهنّ أطهر لكم".
ونقل هذه المعنى عن كبار التابعين:
فعن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: (هن أطهر لكم) .
وعن مجاهد: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته. فأمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
وعن سعيد بن جبير، في قول لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر كم)، يعني: نساءهم، هنّ بَنَاته، هو نبيّهم = وقال في بعض القراءة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ)، [سورة الأحزاب: 6]. كما في قراءة أبي بن كعب التفسيرية : وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم . انتهى باختصار من "تفسير الطبري" (15/ 413).
قال الرازي رحمه الله: "وهو أنه قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم. أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل" انتهى من "تفسير الرازي" (18/379).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (290802).
ثانياً:
الآيات الكريمة السابقة من سورة "الحجر"، فيها أن الله عز وجل أعلم نبيه لوطا عليه السلام بهلاك قومه، ثم ذكر بعد ذلك طلبه إلى قومه أن يتزوجوا بناته، حلالا. قال تعالى: ( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ).
وهذا الترتيب بين خبر الله عن هلاك قوم لوط، ثم محاورة نبي الله للهالكين؛ ترتيب ذكري، لا ترتيب وجودي. ومعنى ذلك: أن هذا هو ترتيب لذكر الأحداث في هذه القصة، وليست ترتيبا زمانيا، حتى يقال: إن نبي الله علم بهلاك قومه أولا، ثم حصل بينه وبينهم ما حصل من الكلام، والمدافعة.
وقد عطفت الآيات هذه الأحداث بحرف "الواو"؛ والواو في لغة العرب لا تقتضي ترتيبا زمانيا بين المعطوف، والمعطوف عليه. لا سيما إذا دل دليل من خارج السياق على أن الترتيب الزماني لم يكن كذلك.
وهذا الدليل الخارجي: هو سياق نفس القصة، لكن في سورة أخرى. قال الله تعالى:
( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) هود/77-81.
قال ابن كثير، رحمه الله، في سياق تفسيره لآيات "سورة الحجر" المذكورة أولا:
" وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سياق سورة هود، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم. ولكن الواو لا تقتضي الترتيب، ولا سيما إذا دل دليل على خلافه، فقالوا له مجيبين: أولم ننهك عن العالمين أي: أو ما نهيناك أن تضيف أحدا؟ فأرشدهم إلى نسائهم، وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم أيضا القول في ذلك، بما أغنى عن إعادته.
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم، وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" انتهى، من "تفسير ابن كثير - ت السلامة" (4/ 542).
وجاء في التفسير الوسيط:
"وكان مجىءُ هؤلاءِ المجرمين إِلى منزل لوط عليه السلام وما دار بينه وبينهم، من نصحه لهم ومجادلتهم له -كان مجيئهم هذا قبل أَن تُعلمه الملائكة بأَنهم رسل ربه، ويأَمروه بأَن يسرِىَ بأَهله، على ما تقدم بيانه في سورة هود في قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا" إِلى قوله عز سلطانه: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ".
وإِنما أُخِّر ذكر مجيئهم هنا وما تبعه من المجادلة، وقُدم عليه ذكر ما كان بينه وبين الرسل من المقاولة -على خلاف الترتيب الواقعي- للمسارعة إِلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإِهلاك قومه وتنجية آله، عقب ذكر بشارة إِبراهيم عليه السلام بهما.
ولم يراع في النظم الكريم الترتيب الواقعي، ثقةً بمراعاته في مواقع أُخر.
والواو للعطف، ولكنها لا تقتضي الترتيب، ولا سيما إِذا دل الدليل على خلافه" انتهى من "التفسير الوسيط - مجمع البحوث" (5/ 564).
وقال الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: " ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لما علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه، كما جاء في قوله تعالى: قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك في سورة هود [81] .
والواو لا تفيد ترتيب معطوفها". انتهى، من "التحرير والتنوير" (14/ 66).
والله أعلم