علمت أن من شروط صحة البيع أن يكون المعقود عليه معلوما عند المتبايعين، سواء بوصف أو برؤية، فما حكم شراء العطور أو الفواحات والشموع المعطرة عبر الإنترنت بدون شمها، بل يقرأ المشتري وصفاً للرائحة، وقد تطابق الرائحة في الواقع خياله وقد لا تطابق؟ وهل إذا لم يجد وصفاً أو لم يقرأه ثم اشتراه يكون العقد فاسداً؟
الحمد لله.
يشترط لصحة البيع: العلم بالمبيع، ويحصل العلم بالرؤية وبالوصف، وبالشم، والذوق، بحسب المبيع.
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (3/163): "(وما عرف مما يباع بلمسه أو شمه أو ذوقه، فكرؤيته) لحصول المعرفة (ويحصل العلم بمعرفته) أي المبيع...
(وحكم ما لم ير بائع: حكم مشتريه فيما تقدم) من التفصيل، فلا يصح البيع إن لم يوصف له بما يكفي في السلم، ولم يعرفه بشم أو لمس أو ذوق، ويصح إن وصف بذلك أو عرفه بلمس أو شم أو ذوق" انتهى.
واليوم أصبح العطر يباع مع بيان مكوناته، ووصف رائحته، وإرفاق صورة له، ومع كونه من ماركات معروفة لا تختلف رائحتها، على خلاف ما كان في الماضي.
والذي يظهر أن ذلك كاف في حصول العلم بالمبيع، فيصح البيع.
فإن وجده المشتري مخالفا لما وصف له، فله خيار الخلف في الصفة.
وصحح بعض أهل العلم البيعَ إذا تم بلا رؤية، ولا وصف للمبيع، ويكون للمشتري للخيار إذا رآه، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وهذا نافع في بيع العطور ونحوها، مما لا ينضبط بالصفة، أو لا يكون من "ماركة" معروفة، مجربة من قبل، كالأخلاط الخاصة، ونحوها.
جاء في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/ 323): "المراد من الرؤية في بحث خيار الرؤية: هو الوقوف على الحال والمحل الذي يعرف به المقصود الأصلي من المبيع، مثلا الكرباس والقماش الذي يكون ظاهره وباطنه متساويين تكفي رؤية ظاهره، والقماش المنقوش والمدرب تلزم رؤية نقشه ودروبه، والشاة المشتراة لأجل التناسل والتوالد: يلزم رؤية ثديها، والشاة المأخوذة لأجل اللحم يقتضي جس ظهرها وأليتها، والمأكولات والمشروبات يلزم أن يذوق طعمها.
فالمشتري إذا عرف هذه الأموال، على الصور المذكورة، ثم اشتراها: ليس له خيار الرؤية؛ لأن العلم بالشيء يكون باستعمال إدراك ذلك الشيء، والرؤية هنا من عموم المجاز، وليست مستعملة في معناها الحقيقي؛ إذ ليس مقصودا بها الإبصار.
وليس المقصود رؤية المبيع من جميع جهاته لأن ذلك متعذر . (انظر المادة 17) .
وعلى ذلك لما كان المسك يعرف بالشم، والمأكول بالذوق... فشمُّ المسك، وذوق المأكول: رؤية لها ...
وكذلك إذا اشترى شخصٌ مِسكا، ورآه بعينه دون أن يشمه، أو اشترى بقرة للنتاج، ورأى جميع أطرافها إلا أنه لم ير ضرعها، أو شاة للذبح ورآها من غير أن يجس: كان مُخيَّرا عند شمه المسك، ورؤيته ضرع البقرة، وجسه ظهر الشاة" انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال، كقول الشافعي في الجديد.
والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روي عن أحمد: لا خيار له.
والثالثة - وهي المشهورة - أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة، وهو قول مالك" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 25).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (8/ 152): "قوله: أو وصف له بما لا يكفي سلما، لم يصح؛ لعدم العلم بالمبيع ويأتينا إن شاء الله السلم وما الذي يمكن انضباطه والذي لا يمكن، فإذا وصُف بما لا يكفي سلما فإنه لا يصح البيع.
وقيل: إنه يصح أن يبيع ما لم يره ولم يوصف له، ولمشتر الخيار إذا رآه، فيقول مثلا: بعت عليك سيارتي، فقال له: ما هذه السيارة؟ قال: إن شاء الله ستراها وتعرفها، قال له: بكم؟ قال: بخمسة آلاف، قال: اشتريت.
فعلى المذهب لا يصح؛ لأنه لم يرها ولم توصف له.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح البيع ويكون للمشتري الخيار إذا رآه، وهذا هو الصحيح، وهو شبيه ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار، إذا رآه فليس عليه نقص.
فإذا قيل: كيف الطريق إلى تصحيح البيع على القول الأول؟
الجواب: أنه إذا رآه عقد عليه من جديد" انتهى.
والحاصل:
أنه يجوز شراء العطور ونحوها عبر الإنترنت، اعتمادا على وصفها وبيان نوعها وحجمها، إن كان ذلك وصفا معروفا منضبطا؛ فإن جاءت مخالفة للوصف فللمشتري الخيار.
ويجوز في مذهب الحنفية شراؤها بلا رؤية أو وصف يحصل بهما العلم بصفة المبيع، وللمشتري الخيار إذا رآها.
ويجوز- وهو الأولى، إن أمكن، وكان لمن يوصلها صلاحية بذلك- أن يكون الشراء عند وصولها للمشتري، فيحصل له العلم التام بها عند شرائها.
والله أعلم.