الحمد لله.
قال الله تعالى في شأن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) المنافقون/4.
قال السعدي رحمه الله: " وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض" انتهى من "تفسير السعدي"، ص 864
وقال سبحانه: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) محمد/30.
وقال تعالى قبلها: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) محمد/29.
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم أي: اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه، حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة "براءة"، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.
وقوله: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين، سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها.
ولتعرفنهم في لحن القول أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو؛ بمعاني كلامه، وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة، إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث: "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر" انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/321).
وقال السعدي رحمه الله: " وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر" انتهى من تفسير السعدي، ص 789
والآية الأولى تفيد أنه صلى الله عليه وسلم يعجب بكلامهم، وهذا محمول على كلام بعضهم كعبد الله بن أبي، فقد كان فصيحا، لا كلام جميعهم.
أو محمول على أنه يسمع كلامهم، أي قولهم: إنك لرسول الله، لا عامة كلامهم الذي عرّفه الله نفاقهم فيه.
قال الرازي في تفسيره (30/547): " اعلم أنه قوله تعالى: (وإذا رأيتهم) يعني عبد الله بن أبي، ومغيث بن قيس، وجد بن قيس؛ كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا، وإذا قال، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وهو قوله تعالى: (وإن يقولوا تسمع لقولهم) أي ويقولوا: إنك لرسول الله، تسمع لقولهم، وقرئ يُسمع على البناء للمفعول" انتهى.
والحاصل:
أن قوله تعالى: ( تسمع لقولهم ): ليس المراد به هنا: سماع التصديق لكلامهم، وإسلامهم، وقبول إيمانهم؛ بل المراد به: أن منطقهم يخلب الأسماع لحلاوته، وفصاحته؛ وإن لم يكن وراء ذلك من الإيمان الذي ينفع صاحبه، ويصدق مقاله: شيء.
ثم إن كلامهم، مهما حسَّنوه، وزوقوه، وزوَّروه: لا بد أن تدل مراميه على دخائل نفوسهم، وفساد قلوبهم.
والله أعلم.