بالنسبة لحافظ القرآن تماما بفضل الله الذي يستطيع أن يسرده دون أخطاء أبدا لأنه يحفظه مثل حفظ سورة الفاتحة ، ولذلك لا يفتح المصاحف عنده في البيت لدرجة انه مر عليه بفضل الله خمسة وعشرون عاما لم يفتح مصحفا !! هل يأثم بترك المصاحف دون قراءة خاصة أنه بدأ يتراكم عليها التراب ؟ وهو يقول إنه يخشع أكثر إذا قرأ من حفظه
الحمد لله.
أولا:
اختلف العلماء في أيهما أفضل: القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب؟ على ثلاثة أقوال:
1-فذهب كثير من أهل العلم إلى فضل النظر في المصحف، وأنه عبادة مستقلة، وأن القراءة من المصحف أفضل من التلاوة عن ظهر قلب؛ لاجتماع التلاوة والنظر.
قال ابن كثير رحمه الله في "فضائل القرآن" (209): "القراءةُ عن ظهر قلب.
إنما أفرد البخاري في هذه الترجمة حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، الحديث الذي تقدم الآن، وفيه: أنه، عليه السلام، قال لرجل: "فما معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا وكذا، لسور عددها. قال: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ ". قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن" .
وهذه الترجمة من البخاري، رحمه الله، مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل، والله أعلم. ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء: أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة، كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه.
واستدلوا على فضيلة التلاوة في المصحف: بما رواه الإمام العلم أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن، حيث قال: حدثنا نعيم بن حماد، عن بقية بن الوليد، عن معاوية بن يحيى، عن سليم بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة ).
وهذا الإسناد ضعيف؛ فإن معاوية بن يحيى هو الصدفي أو الأطرابلسي، وأيهما كان فهو ضعيف.
وقال الثوري عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف. [صححه ابن حجر في الفتح].
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس، عن عمر: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه.
وقال حماد أيضا: عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن مسعود: أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف، فقرؤوا، وفسر لهم. إسناد صحيح.
وقال حماد بن سلمة: عن حجاج بن أرطاة، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال: إذا رجع أحدكم من سوقه، فلينشر المصحف، وليقرأ.
وقال الأعمش عن خيثمة: دخلت على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف، فقال: هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة.
فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب؛ لئلا يُعَطَّل المصحف فلا يقرأ منه، ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان، فيتذكر منه، أو تحريف كلمة، أو آية، أو تقديم أو تأخير، فالاستثبات أولى، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال.
فأما تلقين القرآن: فمن فم الملقن أحسن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء" انتهى.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 299): " وقراءة القرآن في المصحف أفضل...
قال القاضي: وإنما اختار أحمد القراءة في المصحف لأخبار...
قال ابن الجوزي: وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة؛ لئلا يكون مهجورا " انتهى.
2-وذهب آخرون إلى أن القراءة عن ظهر قلب أفضل، واختاره العز ابن عبد السلام رحمه الله، فقال في أماليه: "قيل القراءة في المصحف أفضل؛ لأنه يجمع فعل الجارحتين، وهما اللسان والعين، والأجر على قدر المشقة.
وهذا باطل؛ لأن المقصود من القراءة التدبر، لقوله تعالى: ليدبروا آياته؛ والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود، فكان مرجوحا" نقله الزركشي في البرهان في علوم القرآن (1/ 463).
3-وذهب جماعة إلى أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وأن الأفضل ما حصل معه التدبر واجتماع القلب، سواء كان عن غيب أو عن نظر في المصحف، وهذا هو الأرجح.
قال النووي رحمه الله في : "الأذكار" (ص 90-91) :" قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة من حفظه. هكذا قال أصحابنا، وهو مشهور عن السلف رضي الله عنهم.
وهذا ليس على إطلاقه، بل إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكثر مما يحصل من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا، فمن المصحف أفضل، وهذا مراد السلف " انتهى.
ونقل الحافظ ابن حجر كلام ابن كثير، وقال: " لكن القراءة عن ظهر قلب أبعد من الرياء، وأمكن للخشوع.
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
وأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة: "اقرأوا القرآن، ولا تغرنَّكم هذه المصاحف المعلقة؛ فإن الله لا يعذب قلبا وعى القرآن"" انتهى من فتح الباري (9/ 78).
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله : هل هناك فرق في الأجر بين قراءة القرآن من المصحف أو عن ظهر قلب؟ وإذا قرأت القرآن في المصحف فهل تكفي القراءة بالعينين أم لابد من تحريك الشفتين؟ وهل يكفي تحريك الشفتين أم لا بد من إخراج الصوت؟
فأجاب: "لا أعلم دليلا يفرق بين القراءة في المصحف أو القراءة عن ظهر قلب، وإنما المشروع التدبر وإحضار القلب، سواء قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب.
وإنما تكون قراءة إذا سمعها؛ ولا يكفي نظر العينين، ولا استحضار القراءة من غير تلفظ. والسنة للقارئ أن يتلفظ ويتدبر، كما قال الله عز وجل : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، وقال عز وجل: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ).
وإذا كانت القراءة عن ظهر قلب أخشع لقلبه، وأقرب إلى تدبر القرآن: فهي أفضل. وإن كانت القراءة من المصحف أخشع لقلبه ، وأكمل في تدبره: كانت أفضل ، والله ولي التوفيق " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (24/352).
ثانيا:
قد رويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث ضعيفة في أن النظر إلى المصحف عبادة، منها:
حديث: (النظر في المصحف عبادة ، ونظر الولد إلى الوالدين عبادة ، والنظر إلى علي بن أبي طالب عبادة). وهو حديث موضوع ، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة (1/531).
وحديث : ( أعطوا أعينكم حظها من العبادة : النظر في المصحف ، والتفكر فيه ، والاعتبار عند عجائبه ) وهو موضوع كذلك [سلسلة الأحاديث الضعيفة 4/88].
وحديث : ( خمس من العبادة : قلة الطعام ، والقعود في المساجد ، والنظر إلى الكعبة ، والنظر في المصحف ، والنظر إلى وجه العالم ) . وهو حديث ضعيف جدا [ضعيف الجامع الصغير رقم:2855 ].
والحاصل:
أن الحافظ المتقن الذي يقرأ عن ظهر قلب ولا يخطئ، ويجد خشوعه في القراءة كذلك، لا يضره عدم القراءة في المصحف، ولا يكون هاجرا للقرآن، لأنه يقرؤه من حفظه.
ولو أنه جعل لنفسه أن ينظر في المصحف كل يوم، ولو شيئا يسيرا، لكان أفضل له، وأجمع للفضائل، وأنشط لنفسه. وقد سبق كلام ابن الجوزي في ذلك.
وكذلك: ينبغي أن تكون له ختمة بالنظر، ولو على فترات متباعدة؛ فربما وهم في كلمة أو حرف.
وبكل حال؛ فلا يليق بالمسلم – فضلا عن صاحب القرآن - : أن يدع المصحف يعلوه التراب؛ فإن هذا مناف للتعظيم اللائق بكلام الله، ولا يستغني بيت أن يكون فيه مصاحف لأهله يعتادونها؛ لكن ما زاد على حاجتهم، ينبغي لهم أن يتصدقوا به، أو يجعلوه وقفا على مسجد أو مكان يحتاج إلى القراءة فيه.
والله أعلم.