الحمد لله.
أولا:
يكره الإحرام قبل الميقات في مذهب مالك وأحمد والشافعي في قول.
جاء في المدونة (1/ 396): "قلت لابن القاسم: أكان مالك يكره للرجل أن يحرم من قبل أن يأتي الميقات؟
قال: نعم.
قلت: فإن أحرم قبل الميقات، أكان يُلزمه مالك الإحرام؟
قال: نعم" انتهى.
وقال خليل في مختصره: "وكُرِه قبلَه، كمكانه، وفي رابغ تردد. وصح" انتهى.
قال الحطاب رحمه الله في مواهب الجليل (3/ 18): "أي: وكُره الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني، كما يكره الإحرام - سواء كان بحج أو عمرة أو بهما - قبل ميقاته المكاني.
وتردد المتأخرون من الشيوخ في رابغ، هل هو متقدم على الميقات، فيكره الإحرام منه؟ أو هو أول الميقات، فلا يكره، بل يكون هو المطلوب؟
ثم إن الإحرام يصح، وينعقد، في الصورتين المذكورتين، وإن كان مكروها، أعني فيما إذا أحرم بالحج قبل أشهره، وفيما إذا أحرم قبل الميقات المكاني، هذا معنى كلامه" انتهى.
وفي التاج والإكليل (4/ 24): "ومن مناسك خليل: والأفضل أن يحرم من أول الميقات، ويكره تقديم الإحرام عليه، على المشهور.
ورأى سيدي الشيخ أبو عبد الله بن الحاج: أن إحرام المصريين من رابغ، من باب تقديم الإحرام قبل الميقات.
ومال شيخنا - رحمه الله تعالى - إلى أنه من أعمال الجحفة ومتصل بها، وكان ينقله عن الزواوي.
وفي بهرام: ذهب إلى الكراهة الشيخ أبو عبد الله ابن الحاج، نفعنا الله به، وذهب غيره إلى أنه لا يكره؛ لأنه أول الميقات، ومن أعمال الجُحفة، ومتصل بها" انتهى.
وقال النووي رحمه الله في المنهاج: "والأفضل أن يحرم من دويرة أهله، وفي قول: من الميقات . قلت: الميقات أظهر، وهو الموافق للأحاديث الصحيحة , والله أعلم" انتهى من المنهاج مع مغني المحتاج (2/ 228).
وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني (3/ 250): "لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما، تثبت في حقه أحكام الإحرام. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم.
ولكن الأفضل: الإحرام من الميقات، ويكره قبله. روي نحو ذلك عن عمر، وعثمان. - رضي الله عنهما - وبه قال الحسن، وعطاء، ومالك، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده.
وعن الشافعي: كالمذهبين.
وكان علقمة، والأسود، وعبد الرحمن، وأبو إسحاق، يحرمون من بيوتهم.
ولنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل. فإن قيل: إنما فعل هذا لتبيين الجواز.
قلنا: قد حصل بيان الجواز بقوله، كما في سائر المواقيت.
ثم؛ لو كان كذلك، لكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم، ولما تواطئوا على ترك الأفضل، واختيار الأدنى، وهم أهل التقوى والفضل، وأفضل الخلق، ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم.
وقد روى أبو يعلى الموصلي، في (مسنده) ، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه .
وروى الحسن، أن عمران بن حصين أحرم من مِصْره، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فغضب، وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصره؟!
وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع، وكرهه له. رواهما سعيد، والأثرم.
وقال البخاري: كره عثمانُ أن يُحرم من خراسان، أو كِرمان.
ولأنه أحرم قبل الميقات، فكُره، كالإحرام بالحج قبل أشهره.
ولأنه تغرير بالإحرام، وتعرُّضٌ لفعل محظوراته، وفيه مشقة على النفس، فكُره، كالوصال في الصوم.
قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وُقِّتَتْ لكم، فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك" انتهى.
ثانيا:
إن أحرمت من بيتك، أي نويت النُسك، ثم لبيت، فقد فعلت مكروها، وصح إحرامك.
والأفضل أن تحرم من الميقات، ولك أن تغتسل في بيتك، وتلبس ملابس الإحرام، لكن لا تنوي ولا تلبي إلا عند الميقات، حتى لا تبدأ عُمرتك بمكروه.
قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في المدخل (4/ 216): "فإذا وصل إلى موضع الإحرام، فليحذر مما يفعله بعضهم، وهو أنهم يحرمون من رابغ، وهو موضع قبل الجحفة، فيبدؤون الحج بفعل مكروه، وهو الإحرام قبل الميقات، والحج مرة واحدة في العمر، ويعتلّون بأن الجحفة التي جعلت لهم ميقاتا ليس فيها ماء يغتسلون به للإحرام والماء موجود في رابغ!! وهذا ليس بشيء؛ لأن الغسل في الحج إنما هو على سبيل الاستحباب، بخلاف الإحرام من الميقات فإنه سنة مؤكدة، فيتركون السنة لأجل مستحب.
ووجه آخر، وهو أن الغسل ليس من شرطه أن يكون متصلا بالإحرام في الحج، بل لو اغتسل في رابغ عند إرادتهم الرحيل، ثم سار إلى الجحفة وأحرم منها، لكان قد حصَّل السنة والمستحب.
وقد سئل مالك - رحمه الله - عمن اغتسل بالمدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ثم خرج إلى ذي الحليفة وأحرم منها؟
فقال: إن غسله صحيح. أو كما قال.
وبين المدينة وذي الحليفة، مسافة أكثرُ من المسافة التي بين رابغ والجحفة.
فإن قال قائل: إن الجحفة لا يدخلها الركب؟
فالجواب: أنه، وإن لم يدخلها، فهو يمر بها؛ وليس من شرط الإحرام أن لا يحرم حتى يدخلها، بل إذا حاذاها أحرم.
وإذا كان كذلك، فيغتسلُ في رابغ، عند إرادة الناس الرحيل، ثم يسير معهم إلى أن يحاذي الجحفة، فإذا حاذاها نزل عن راحلته، وصلى ركعتي الإحرام، ثم تعرَّى من المَخِيط، ولبس ثياب الإحرام.
وإن شاء أن يلبس ثياب الإحرام من رابغ، ثم يترك الإحرام حتى يحاذي الجحفة فله ذلك" انتهى.
والله أعلم.