الحمد لله.
أولا:
القرآن هو من جملة كلام الله، وليس هو "كل" كلام الله ولا كلماته، بل لله عز وجل من الكلام ما لم ينزله في القرآن. والكلام صفة المتكلم، كما نص على ذلك أهل العلم.
ولا شك أن التكلم صفة للمتكلم، وكذلك الكلام الذي يصدر منه، ويضاف إليه، فيقال: كلام زيد، وكلام عمر، فهذا الكلام ليس شيئا مستقلا بنفسه، منفصلا عن المتكلم، وإنما هو شيء يقوم به، وهذا معنى الصفة.
وما يضاف إلى الله – أي: ينسب إليه -: إن كان عينا قائمة بذاتها، فهو مخلوق من مخلوقات الله؛ كـ(ناقة الله) و(بيت الله) و(عبد الله)، ونحو ذلك.
وإن لم يكن عينا تقوم بذاتها، فهو صفة من صفاته، ومنه: (كلام الله).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة، وصفاتها القائمة بها: ما ليس بصفة له، باتفاق الخلق، كقوله تعالى: (بيت الله) و (ناقة الله) و(عباد الله) بل وكذلك (روح الله) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.
ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك، كان صفة له" انتهى من الجواب الصحيح (4/ 414).
فتبين أن الكلام المضاف إلى الله جل جلاله: صفة من صفاته، قائمة به، كما تقوم الصفة بالموصوف، ويتصف بها سبحانه.
قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) التوبة/6
والمراد بالكلام في الآية القرآن، كما هو بيِّنٌ.
قال اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/ 300): " وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ بَلَدِنَا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ , وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ" انتهى.
فقوله: "من الله" هو كقول غيره: صفة لله.
قال أبو القاسم التيمي الأصفهاني رحمه الله في "الحجة في بيان المحجة" (2/ 203): " أجمع المسلمون أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله، صح أنه صفة لله تعالى، وأنه عز وجل موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته.
تقول العرب: زيد متكلم، فالتكلّم صفة له، إلا أن حقيقة هذه الصفة الكلام، وإذا كان كذلك، كان القرآن كلام الله، وكانت هذه الصفة لازمة له أزلية.
والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه، لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة، [كلمةً] بعد كلمة، دل على أن الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة.
والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء، قال الله عز وجل: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون؛ أي: أردنا خلقه، وإيجاده، وإظهاره.
فقوله: كن، كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل، وبها يتكوّن المخلوق: لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق" انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس بائنا منه؛ بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.
ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره؛ بل يقال، كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
فقولهم: "منه بدأ": رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام ومن ذلك المخلوق ابتدأ.
فبيَّنوا أن الله هو المتكلم به، " منه بدأ "، لا من بعض المخلوقات. " وإليه يعود " أي فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف حرف" انتهى من مجموع الفتاوى (12/ 561).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : "القرآن كلام الله، والكلام ليس عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق, لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة" انتهى من شرح السفارينية (1/ 427).
ولم نقف على من نازع في أن الكلام صفة للمتكلم، فهذا يقوله أهل السنة ومتكلمة الإثبات كالأشاعرة والماتريدية وغيرهم، ولم ينازع في ذلك إلا منكرو الصفات، كالجهمية والمعتزلة القائلين بأن الله خلق الكلام في محل بائن عنه.
ثانيا:
القرآن كلام الله غير مخلوق، كما أجمع عليه أهل السنة، وهو من أصولهم التي فارقوا بها أهل البدع.
وقد كفر السلف من قال بخلق القرآن.
قال ابن القيم في القصيدة النونية، ص42:
ولقد تقلد كفرَهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـ ... ـهم بل حكاه قبله الطبراني
وينظر ذكر من قال بذلك، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للطبري اللالكائي (2/ 300- 342)، وقد عدّ أكثر من خمسمائة من علماء الإسلام يقولون بكفر من قال: القرآن مخلوق.
وأما عدم فهك لأمر من "دقيق" الكلام، والبحوث، أو إعراضك عنه، لدقته، وصعوبته، مع علمك بأن القرآن كلام الله، وعلمك بأن الله صفة هي "الكلام" أو "التكلم"، كما ذكرت = فليس ذلك من الكفر في شيء، إن شاء الله، فلا يحزنك وسواس الشيطان، ولا ما يلقيه في نفسك، وتعوذ بالله منه، لا تسترسل مع وساوسه.
والله أعلم