الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) الأحزاب/52
وأظهر المعاني في قوله تعالى: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قد منع من تطليق زوجاته، وهذا من إكرام الله تعالى لهن، جزاءَ رضاهن واختيارهن لرسول الله صلى الله وعليه وسلم حين خيرهنّ.
قال البغوي رحمه الله في تفسيره (6/ 366): "قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ، مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: "لَا تَحِلُّ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، "مِنْ بَعْدُ": يَعْنِي مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ التِّسْعِ اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ فَاخْتَرْنَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، شَكَرَ اللَّهُ لَهُنَّ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ النِّسَاءَ سِوَاهُنَّ، وَنَهَاهُ عَنْ تَطْلِيقِهِنَّ وَعَنِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ" انتهى.
وقال السعدي رحمه الله في تفسيره، ص670: " وهذا شكر من الله، الذي لم يزل شكورًا، لزوجات رسوله، رضي الله عنهن، حيث اخترن الله ورسوله، والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ زوجاتك الموجودات وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها.
فحصل بهذا، أمنُهنّ من الضرائر، ومن الطلاق، لأن الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.
وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي: حُسن غيرهن، فلا يحللن لك إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات، في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات" انتهى.
وفي الآية قولان آخران.
قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير (3/ 477): "قوله تعالى: (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ، قاله الضحاك.
والثاني: أن تبدِّل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين.
والثالث: أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد" انتهى.
وقد ضعف ابن جرير الطبري رحمه الله هذين القولين الأخيرين، وينظر: تفسير ابن جرير (20/ 302).
ثانيا:
أما ما ورد في تطليقه صلى الله عليه وسلم لحفصة، فقد كان هذا قبل نزول هذه الآية.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره (20/ 303): "فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرم على نبيه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتي خيَّرهن فاخترنه، فما وجه الخبر الذي روي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها، وأنه أراد طلاق سودة، حتى صالحته على ترك طلاقه إياها، ووهبت يومها لعائشة؟
قيل: كان ذلك قبل نزول هذه الآية.
والدليل على صحة ما قلنا من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن، الرواية الواردة أن عمر [لما] دخل على حفصة معاقبَها، حين اعتزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نساءه، كان من قِيله لها: "قد كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم طلقك، فكلمتُه فراجَعَك، فوالله لئن طلقك، أو لو كان طلقك، لا كلمته فيك"!!
وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على اعتزالهن.
وأما أمر الدلالة على أن أمر سودة كان قبل نزول هذه الآية: أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه، والمقام معه على الرضا بأنْ لا قَسْم لهن، وأنه يُرجِي من يشاء منهن، ويُؤوي منهن من يشاء، ويؤثر من شاء منهن على من شاء، ولذلك قال له تعالى ذكره (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ)؛ ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جرى على تركها يومها لعائشة في حال لا يوم لها منه.
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها، إلا في حال كان لها منه يوم، هو لها حق كان واجبًا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أداؤه إليها، ولم يكن ذلك لهن بعد التخيير، لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا.
فتأويل الكلام: لا يحل لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك في الآية قبل، ولا أن تطلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فتبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدل به منهن، إلا ما ملكت يمينك.
وأن في قوله (أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ) رفع، لأن معناها: لا يحل لك النساء من بعد، ولا الاستبدال بأزواجك، وإلا في قوله: (إلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء.
ومعنى ذلك: لا يحل لك النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك إلا ما ملكت يمينك من الإماء، فإن لك أن تملك من أي أجناس الناس شئت من الإماء.
وقوله (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) يقول: وكان الله على كل شيء؛ ما أَحلَّ لك، وحَرَّم عليك، وغيرِ ذلك من الأشياء كلها= حفيظًا، لا يعزب عنه علم شيء من ذلك، ولا يئوده حفظ ذلك كله" انتهى.
ثالثا:
وإذا تقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم مُنع من تطليق نسائه بهذه الآية، فهل كان يحل له أن يتزوج غيرهن دون أن يطلق؟
في ذلك خلاف، مبني على تفسير قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ، مِنْ بَعْدُ):
هل المراد: لا يحل لك غيرُ هؤلاء النساء التسع الذين تحتك؟
أم المراد: لا يحل لك غيرُ أصناف النساء المذكورات في الآية التي قبلها، وهي (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) الأحزاب/50
والثاني: هو اختيار الطبري رحمه الله.
وعلى فرض أن المراد لا يحل لك غيرُ التسع اللاتي تحتَك؛ فهل بقي هذا الحكم، أم نسخ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين.
وقد روى أحمد (24137) والنسائي (3204) والترمذي (3216) عن عَائِشَة رضي الله عنها قال: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ" وصححه الترمذي والألباني، وضعفه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 526): " نعم الواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجدد له تزُّوج امرأةٍ بعد القصة المذكورة، لكن ذلك لا يرفع الخلاف، وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء"، وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها مثله" انتهى.
وينظر: جواب السؤال رقم (118492)، وفيه ترجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أُبيح له النساء بعد ذلك، لكنه لم يفعل، فكانت المِنَّة له عليهن بذلك، صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.