ما صحة هذا الأثر؟ ( يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلانٍ، من كان له حقٌ فليأت إلى حقّه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحقّ على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها)، وهل يعني هذا جواز ألا تسامح المرأة زوجها، وألا تعفو عنه إن أساء لها، لكن يمكنها في الوقت ذاته أن تحسن إليه، وتبادر في مصالحته؛ لتنال أجرها، وفي يوم القيامة تأخذ حقها منه؟
الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر رواه غير واحد، منهم الحسين المروزي في زوائده على "الزهد لابن المبارك" (ص497)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3 / 954): عن عِيسَى بْن يُونُسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذانَ أَبي عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "يُؤْتَى بِالْعَبْدِ وَالأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رؤوس الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: هَذَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ؛ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَدُورَ لَهَا الْحَقُّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ عَلَى أَخِيهَا أَوْ عَلَى زَوْجِهَا: ( فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ).
فَيَغْفِرُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَا شاء، ولا يغفر مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئاً، فَيُنْصَب لِلنَّاسِ، فَيُنَادى: هَذَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ؛ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ.
فَيَقُولُ: فَنِيَتِ الدُّنْيَا؛ مِنْ أَيْنَ أُوتِيهِمْ حُقُوقَهُمْ؟
قَالَ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِقَدْرِ طَلِبَتهِ.
فَإِنْ كَانَ وَلِيّاً لِلَّهِ، فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، ضَاعَفَهَا اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ.
وَإِنْ كَانَ عَبْداً شَقِيّاً، قَالَ الْمَلَكُ: فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِي لَهُ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، قَالَ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكّاً مِنَ النَّارِ ".
وهذا خبر رواة إسناده موثّقون، وقد صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري"، قال رحمه الله تعالى:
" فهذا الإسناد - عند ابن أبي حاتم - إسناد صحيح.
والحديث أثر موقوف على ابن مسعود، ولكني أراه من المرفوع حكما؛ فإن ما ذكره ابن مسعود مما لا يعرف بالرأي، وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه، وليس هو ممن ينقل عن أهل الكتاب، ولا يقبل الإسرائيليات.
وقد ذكره ابن كثير - كما قلنا - ثم قال: ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح " انتهى. "تفسير الطبري" (8 / 364).
والشاهد الذي أشار إليه ابن كثير رحمه الله تعالى، هو ما رواه البخاري (6534) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ .
وما رواه مسلم (2581) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْه، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ .
ثانيا:
العفو عن الظالم أو عدم العفو: مرجعه إلى المظلوم، وهو حقه؛ فيجوز له أن يتصرف فيه كما يشاء، فإما أن يصالح ظالمه المسلم ولا يهجره ويحسن معاملته، مع أنه – أيضا – لم يعف عنه؛ وإنما أخر المطالبة بحقه إلى الآخرة.
لكن عدم العفو يفوّت على الإنسان فضائل الإحسان وأجوره العالية. فالذي يعفو عن المظلوم، ويترك مقام القصاص من الظالم يوم القيامة = له من أجر كظم الغيظ، والعافين عن الناس ما هو أعظم وأجل من ذلك كله. قال الله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الشورى /40.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لا يكون العفو عن الظالم، ولا قليله، مسقطا لأجر المظلوم عند الله ولا منقصا له؛ بل العفو عن الظالم يصير أجره على الله تعالى؛ فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم فله أن يقتص منه بقدر مظلمته، وإذا عفا وأصلح فأجره على الله، وأجره الذي هو على الله خير وأبقى " انتهى. "مجموع الفتاوى" (30 / 361).
وقد ذكر شيخ الإسلام فصلا نفيسا في أنواع المصائب التي تصيب الإنسان:
" ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا، لأنّ النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدّيقون.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أُوذِي يقول: "يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر". وأَخبَر عن نبي من الأنبياء أنه ضربَه قومُه، فجعلَ يقول: "اللهم اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون". وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له مِثلُ هذا مع قومه، فجعل يقول مِثلَ ذلك. فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهذا النوع من الصبر عاقبتُه النصرُ والهُدى والسُّرور والأمنُ، والقوة في ذاتِ الله، وزيادة محبةِ الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم".
ثم قال شيخ الإسلام:
" ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ:
أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.
الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه [بسببها]، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم.
وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية!!
وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً.
قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة.
الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: (ألَا لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله"، فلا يَقُمْ إلاّ من عفا وأصلح).
وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ عليه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ، أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتُه ومنفعتُه، عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى: (والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ)، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ، فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه، أعظمَ فرحٍ يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا، أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: (ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا).
فالعزّ الحاصل له بالعفو، أحبّ إليه، وأنفع له، من الَعزّ الحاصل له بالانتقام ...
السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس، عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له.
فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه، سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ!!".
وينظر تمام ما ذكره شيخ الإسلام في هذا الفصل، فإنه مفيد نافع: "جامع المسائل" (1/165) وما بعدها.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قالوا: وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعا وقدرا " انتهى. "عون المعبود مع حاشية ابن القيم" (12 / 176).
فمن عفا عن الناس عفا الله تعالى عنه وغفر له من الذنوب مقابل ما غفر للناس.
قال الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور /22.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح، جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).
وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثا على ذلك.
ودلت أيضا: على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ...
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ( أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل " انتهى. "أضواء البيان" (6 / 181 - 182).
الخلاصة:
الخبر الوارد في السؤال: رجال إسناده ثقات. وقد وردت أحاديث صحيحة تشهد لأصل معناه.
لكن هذا الأثر يخبر بما سيقع يوم القيامة وليس فيه حث على عدم العفو، بل العفو قد وردت نصوص الوحي بالإرشاد إليه والحث عليه، وبيان فضله وعلو منزلته، فالذي يعفو سيكون أجره على الله تعالى، وفضل الله تعالى عظيم، ويغفر له من الذنوب جزاء لعفوه، كما أن في كمال العفو، كمال التآلف بين قلوب المسلمين.
والله أعلم.