ما حكم الوقف في آية : (وكأي من نبيئ قتل معه ربيون كثير) على كلمة (قتل) في رواية ورش عن نافع؟
الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ آل عمران/146.
قرأ نافع وابن جبير وأبو عمرو ويعقوب (قٌتِلَ) وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم.
قال عبد الرحمن بن زنجلة، رحمه الله: " قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو: ( وكأين من نَبِي قُتِل )، بِضَم الْقَاف وَكسر التَّاء. أَي: وَكم من نَبِي قُتل قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ، وَمَعَهُ رِبِّيُّون كثير.
وحجتهم: أَن ذَلِك أنزلُ معاتبةً لمن أدبر عَن الْقِتَال يَوْم أحد؛ إِذْ صَاح الصائح: قتل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ، فَلَمَّا تراجعوا كَانَ اعتذارهم أَن قَالُوا: سمعنَا قتل مُحَمَّد، فَأنْزل الله: وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: ( وكأين من نَبِي قُتِل مَعَه ربيون كثير)؛ أَي جموع كثير، فَمَا تضعضع الجموع، وَمَا وهنوا، لَكِن قَاتلُوا وصبروا؛ فَكَذَلِك أَنْتُم، كَانَ يجب عَلَيْكُم أَلا تهنوا لَو قتل نَبِيكُم؛ فَكيف وَلم يقتل؟!
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: قَاتل مَعَه.
وحجتهم قَوْله: فَمَا وهنوا. قَالُوا: لأَنهم لَو (قُتلوا)، لم يكن لقَوْله فَمَا وهنوا وَجه مَعْرُوف؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يوصفوا بِأَنَّهُم لم يهنوا بَعْدَمَا قتلوا. وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَقُول قَاتل؛ أَلا ترى أَنه يَقُول فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم.
وَحجَّة أُخْرَى: أَن (قَاتل): أبلغ فِي مدح الْجَمِيع من معنى (قتل)؛ لأن الله إِذا مدح من (قُتل) خَاصَّة، دون من قَاتل؛ لم يدْخل فِي المديح غَيرهم. فمدْحُ من (قَاتل) أَعم للْجَمِيع من مدح من (قُتل) دون من (قَاتل)؛ لِأَن الْجَمِيع داخلون فِي الْفضل، وَإِن كَانُوا متفاضلين". انتهى، من حجة القراءات، لابن زنجلة (ص175).
قال القرطبي: "وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون" قُتل" واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله" قتل"، ويكون في الكلام إضمار، أي: ومعه ربيون كثير، كما يقال: قُتل الأمير معه جيش عظيم، أي: ومعه جيش، وخرجت معي تجارة، أي ومعي.
الوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلوا بعضهم. ويكون قوله: " فما وهنوا" راجعا إلى من بقي منهم.
قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية، وأنسب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه.
وقرأ الكوفيون وابن عامر" قاتل" وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد، وقال: إن الله إذا حمد من قاتل، كان من قُتل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتل لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعمُّ وأمدحُ" انتهى من "تفسير القرطبي" (4/ 292).
ثانيا:
على قراءة نافع، فالوقف على (قُتِلَ): وقف كاف، إذا أراد أن القتل وقع على النبي وحده، كما نص عليه أهل العلم.
قال أبو عمر الداني رحمه الله: " وكأي من نبي قاتل: كاف، إذا أُسند القتل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ بتأويل: قُتل النبي ومعه جموع كثيرة، فما وهنوا لقتل نبيهم.
وهذا الاختيارُ؛ لأن الآية لذلك السبب نزلت.
حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا محمد بن قطن قال: حدثنا سليمان بن خلاد قال: حدثنا اليزيدي قال أبو عمرو بن العلاء في قوله: (وكأي من نبي قُتِل) قال: قيل قتل محمد، لأنهم أشاعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم أحد، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا.
قال اليزيدي: قال أبو عمرو عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يعجب ممن يقرؤها (قاتل) يقول: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).
فإن أُسند القتل إلى الربيين، كأنه قال: قُتل بعضهم، فما وهن الباقون لقتل من قتل منهم، ولا ضعفوا، ولا استكانوا.
فعلى هذا لم يكف الوقف على (قُتل)، لأن (الربيون) مرفوعون به" انتهى من "المكتفى في الوقف والابتدا" ص45
وقال الأشموني رحمه الله: " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ [146]: كاف.
قرئ: قُتِل بغير ألف، وقَاتَل بألف.
فمن قرأ: قتل بغير ألف مبنيًّا للمفعول، بإسناد القتل للنبي فقط، عملًا بما شاع يوم أُحد: ألا إنَّ محمدًا قد قتل؛ فالقتل واقع على النبي فقط، كأنه قال: كم من نبي قُتِل، ومعه ربيون كثير، فحذف الواو، كما تقول: جئت مع زيد، بمعنى: ومعي زيد، أي: قُتِل ومعه جموع كثيرة، فما وهنوا بعد قتله. هذا بيان هذا الوقف. ثم يبتدئ: معه ربيون كثير، فـ ربيون مبتدأ، ومعه الخبر، فما وهنوا لقتل نبيهم. ولو وصله لكان (ربيون) مقتولين أيضًا، فقتل خبر لـ كأيٍّ التي بمعنى: كم، ومن نبي تمييزها.
وبها قرأ ابن عباس، وابن كثير، ونافع، وأبو عمرو" انتهى من "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" (1/ 160).
والله أعلم.