الحمد لله.
ثبت دنو الله تعالى ونزوله إلى السماء الدنيا يوم عرفة، وأنه يباهي ملائكته بأهل عرفة.
روى مسلم (1348) عن عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟).
وروى ابن خزيمة (2840)، وابن حبان (3853) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ).
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُنَّ أَفْضَلُ، أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟
قَالَ: (هُنَّ أفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عبادي شعثا غبرا ضاحين، جاؤوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي!!
فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا من النار من يوم عرفة) وصححه شعيب في "تحقيق ابن حبان".
وهذا النزول، والقرب والدنو، خاص بأهل عرفة عند بعض أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما نطق به الكتاب والسنة من قرب الرب من عابديه وداعيه: هو مقيد مخصوص؛ لا مطلق عام لجميع الخلق، فبطل قول الحلولية، كما قال: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب فهذا قربه من داعيه.
وأما قربه من عابديه ففي مثل قوله: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب. وقوله: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه)، وقال: (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا) فهذا قربه إلى عبده وقرب عبده إليه.
ودنوه عشية عرفة إلى السماء الدنيا: لا يخرج عن القسمين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة فدنوه لدعائهم.
وأما نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة؛ فإن كان لمن يدعوه ويسأله ويستغفره: فإن ذلك الوقت يحصل فيه من قرب الرب إلى عابديه ما لا يحصل في غيره، فهو من هذا.
وإن كان مطلقا: فيكون بسبب الزمان؛ كونه يصلح لهذا وإن لم يقع فيه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 247).
وقال ابن القيم، رحمه الله، في أثناء كلامه عن فضل موافقة عرفة يوم الجمعة:
" أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية عرفة من أهل الموقف، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ أُشْهِدُكم أني قد غفرتُ لهم.
ويحصل مع دنوِّه منهم تبارك وتعالى: ساعةُ الإجابة التي لا يرُدُّ فيها سائلًا يسأله خيرًا، فيقرُبون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة.
ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب:
أحدهما: قرب الإجابة المحقَّقة في تلك الساعة.
والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاته بهم ملائكته.
فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور، فتزداد قوةً إلى قوتها، وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا، ورجاءً لفضل ربِّها وكرمه. فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلت وقفةُ الجمعة على غيرها .." انتهى، من "زاد المعاد" (1/44-45).
وأما المغفرة والعتق فترجى للجميع.
قال ابن رجب رحمه الله: "ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار، من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة.
وإنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام: رحمة من الله وتخفيفا على عباده، فإنه جعل الحج فريضة العمر، لا فريضة كل عام، وإنما هو في كل عام فرض كفاية، بخلاف الصيام، فإنه فريضة كل عام على كل مسلم، فإذا كمل يوم عرفة وأعتق الله عباده المؤمنين من النار، اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك، وشرع للجميع التقرب إليه بالنسك، وهو إراقة دماء القرابين" انتهى من "لطائف المعارف"، ص 276.
والله أعلم.