رجل له دين عند رجل، وهو يماطله، فأوصى الدائن أهله إذا مات أن لا يأخذوا المال؟
الحمد لله.
أولا:
إذا أوصى أهله ألا يأخذوا دين فلان، إذا مات، فإن كان المدين غير وارث، فهي وصية صحيحة إذا كانت في حدود ثلث التركة، وهي "وصية بالإبراء"، وتنفذ في حدود ثلث التركة، وما زاد عن ثلث التركة يتوقف على إجازة الورثة.
ولو قال ذلك للمدين نفسه: فهو وصية أيضا، أي لو قال له: إذا متُّ فأنت في حل، لأن الإبراء المعلق على الموت: وصية بالإبراء.
هكذا علل الفقهاء، وهو صريح في أن الوصية بالإبراء معتبرة.
قال الرملي في "نهاية المحتاج" (4/ 442): "(والإبراء) الموقت، والمعلق بغير الموت.
أما المعلق به، كإذا مت: فأنت بريء، أو أنت بريء بعد موتي، فهو وصية" انتهى.
وقال الشبراملسي في حاشيته عليه: "(قوله: أما المعلق به) أي بالموت. (قوله: فهو وصية) أي ففيه تفصيلها، وهو أنه إن خرج المبرأ منه من الثلث: برئ، وإلا، توقف على إجازة الورثة فيما زاد" انتهى.
وقال في "كشاف القناع" (4/ 307): " (و) لا يصح (تعليقها) أي: الهبة (على شرط مستقبل) كإذا جاء رأس الشهر، أو قدم فلان فقد وهبتك كذا، قياسا على البيع ...
(غير الموت): فيصح تعليق العطية به وتكون وصية، وكالهبة الإبراء، فلا يصح تعليقه على شرط مستقبل غير الموت. (نحو: إن متَّ بفتح التاء فأنت في حل)؛ فلا يبرأ. (فإن ضم التاء: صح) الإبراء عند وجود شرطه.
(وكان) الإبراء على الوجه المذكور (وصية)؛ لأنه تبرع بما بعد الموت، وهو حقيقة الوصية " انتهى.
وقال في (5/ 546): " (وإن أبرأه) أي أبرأ المجني عليه الجاني (من الدية، أو وصى له بها، فهو وصية لقاتل، وتصح)" انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: إذا قال: " إن مت قبلك فأنت في حل " : هو إبراء صحيح؛ لأنه وصية" انتهى من "أعلام الموقعين" (4/ 6).
وفي "الموسوعة الفقهية" (1/ 166): " ولا نعلم خلافا في تصحيح إضافة الإبراء إلى ما بعد الموت فقط؛ لأنه وصية بالإبراء" انتهى.
وعلى هذا؛ فإذا مات الموصي، ينظر في تركته، وفي الدين: فإن كان الدين يساوي ثلث التركة أو أقل، فقد برئ المدين.
وإن كان الدين أكثر من ثلث التركة، برئ المدين مما يساوي الثلث، وتوقف الأمر في الزائد على إجازة الورثة؛ فإن سمحوا به فلا بأس، وإن لم يسمحوا به، كان على المدين سداده لهم، ولهم مطالبته به لأنه حقهم، يضاف إلى التركة ويقسم على جميع الورثة.
ثانيا:
أما إن كان المدين أحد الورثة، فالوصية بإبراء دَيْنه محرمة؛ لما روى أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، والنسائي (4641)، وابن ماجه (2713) عن أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وتحرم الوصية كذلك إذا كانت لأجنبي بأكثر من الثلث.
قال في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 456): " (وتحرم) الوصية بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارث بشيء) نص عليه الإمام أحمد ، سواء، كانت في صحته أو مرضه.
أما تحريم الوصية لغير وارث بزائد على الثلث: فلقوله صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال : لا. قال: فالثلث. قال: الثلث والثلث كثير» الحديث " متفق عليه.
وأما تحريمها للوارث بشيء، فلحديث: إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه الخمسة إلا النسائي من حديث عمرو بن خارجة وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي.
(وتصح) هذه الوصية المحرمة (وتقف على إجازة الورثة)، لحديث ابن عباس مرفوعا: لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة رواهما الدارقطني.
ولأن المنع لحق الورثة. فإذا رضوا بإسقاطه نفذ" انتهى مختصرا.
ومع تحريم الوصية في الحالين، إلا أنه إن أجازها الورثة، نفذت، كما صرح به في النقل السابق بقوله: " وتصح هذه الوصية ...".
والحاصل:
أنه إن لم يكن المدين من الورثة، فلا حرج أن يوصي الرجل أهله بالعفو عن دينه إذا كان الدين مساويا ثلث التركة أو أقل.
والله أعلم.