ھل المقيم للعمل فى دولة ما يأخذ حكم أهلها؟ أم يأخذ حكم المسافر من حيث الصلاة والصيام والهدي إذا كان مقيما في مكة؟
الحمد لله.
أولًا:
المقيم في مكة بغرض العمل: له أحكام المقيم، كسائر المقيمين في البلاد الأخرى بغرض العمل، أو نحوه من مقاصد الناس في الإقامة ببلد، أو استيطانه.
فهذا يتم صلاته، وتلزمه الجمعة والجماعة، والصيام مع أهل ذلك البلد.
ثانيا:
أما فيما يتعلق بهدي التمتع؛ فهذا له صورتان:
الصورة الأولى:
أن يقيم بمكة على جهة الدوام، ولم يكن من نيته أن ينتقل عنها إلى غيرها؛ فهذا له حكم المكي، ولا إشكال فيه، وإن كان أصله آفاقيا.
قال مالك في الموطأ (64):
“وكل من انقطع إلى مكة من أهل الآفاق، وسكنها، ثم اعتمرَ في أشهر الحج، ثم أنشأ الحج منها: فليس بمتمتع؛ وليس عليه هدي، ولا صيام، وهو بمنزلة أهل مكة، إذا كان من ساكنيها“. انتهى
قال الصاوي رحمه الله:
” وشرط دمهما – أي القران والتمتع – عدم إقامة للمتمتع أو القارن بمكة، أو ذي طُوىً وقتَ الإحرام بهما، قال تعالى : {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196].
واسم الإشارة عائد على الهدي.
فغير المقيم بمكة أو ذي طوى: يلزمه الهدي، وإن كان أصله من مكة، وانقطع بغيرها.
كما أن من انقطع بمكة، أي أقام بها بنية الدوام بها، وأصله من غيرها: لا دم عليه” انتهى من “بلغة السالك لأقرب المسالك” (2/ 37).
الصورة الثانية:
أن يقيم بمكة للعمل بها، أو للدراسة، أو لغير ذلك من مقاصد الناس، سوى الحج والعمرة، ولم يكن من نيته الدوام بها؛ أو كان هذا هو الغالب على حال مثله؛ أنه لا يُترك، والإقامةَ بها، دائما.
فهذه المسألة محل اشتباه وتردد:
فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يعد من حاضري المسجد الحرام، وأنه لا دم عليه لمتعته.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: “وحكم المقيم بمكة من غير أهلها حكم أهل مكة”. انتهى، من ” «فتاوى ورسائل الشيخ» (5/ 221).
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يعد من حاضري المسجد الحرام، وأن عليه دمَ المتعة، كما هو شأن الآفاقي؛ لأن شرط الإقامة هو “الاستيطان”؛ يعني: الدائم. وليس “مطلق السكنى” في الحرم.
وقد نص المالكية على أن يشترط لسقوط دم المتعة: أن ينوي الإقامة في مكة على سبيل الدوام.
وينظر للفائدة: حول بحث: شروط هدي التمتع، د. غازي المطرفي (27-29)، حاضرو المسجد الحرام، د. محمد بن سعد الدوسري ـ ضمن مجلة الجمعية الفقهية السعودية، عدد (40) ص (436-440).
وفي واقع الأمر:
فإن المسألة لا تخلو من تردد وإشكال، وللاحتمال فيها مجال، وكل واحد من القولين قال به من أهل العلم والفتيا، من تبرأ الذمة بتقليده.
ولو احتاط المقيم لدينه، واستبرأ له، وأراق دما للمتعة، فلعله أن يكون خيرا.
وبهذا الاحتياط قال الإمام مالك رحمه الله، في مسألة قريبة، من جملة فروع هذا الأصل المتعلق بتحرير مناط “حاضري المسجد الحرام”، ومن يكونون؟
جاء في المدونة “المدونة” (1/409): “وسألت ابن القاسم، عن الرجل يكون له أهل بمكة، وأهل ببعض الآفاق، فيقدَم مكة معتمرا في أشهر الحج؟
قال: قال مالك: هذا من مشتبهات الأمور، والاحتياط في ذلك أعجب إلي.
قال ابن القاسم: كأنه رأى أن يهريق دما لمتعته، قال: وذلك رأيي”. انتهى.
وأفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله تعالى، بالاحتياط أيضا، في صورة السؤال.
فقد سئل: ” العمال والمتعاقدون الذين وفدوا إلى مكة للإقامة لمدة سنة أو أكثر، وبعضهم أحضر معه عائلته، فهل يعتبرون من أهل مكة في موضع الهدي، وقد تكون العمرة التي أتوا بها في أشهر الحج أحرموا لها من التنعيم، فهل يلزمهم هدي أم لا؟”.
فأجاب، رحمه الله: ” هذا محل نظر؛ لأنهم غير مستوطنين؛ ولأنهم غير وافدين في وقت الحج، فهم بين هؤلاء وهؤلاء، والله سبحانه لما ذكر المتعة والهدي فيها قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
ولهذا اختلف أهل العلم في هذا، هل يعتبر مثل هذا من حاضري المسجد الحرام؛ لأنه مقيم قبل العمرة وقبل الحج؟ أم يعتبر آفاقيًّا لأنه ليس بمستوطن، وإنما أقام لحاجة وسوف يرجع إلى بلاده؟
هذا موضع نظر واحتمال.
والأحوط عندي، والأقرب عندي: أن مثله ليس بحاضري المسجد الحرام في الحقيقة، وأنه إنما جلس لعارض، وأقام لعارض من تدريب أو طلب، أو عمل آخر، ثم يرجع إلى بلاده.
فالأحوط له: الهدي، وأن يعامل نفسه معاملة الوافدين في الحج. هذا هو الأحوط.
وإن قلت: إنه من حاضري المسجد الحرام ومن الساكنين بمكة: فهو قول قوي، فلا يُدْفع، قول قوي جدًّا.
ولكن الأحوط في مثل هذا، والأقرب: أنه يفدي، وأن جانِب كونِه وافدًا: أقرب من كونه حاضري المسجد الحرام”. انتهى، من “فتاوى نور على الدرب” – بعناية الشويعر – (18/146).
والله أعلم.