هل رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم كفر؟

28-10-2024

السؤال 534279

هل قال ابن باز: “لذا، فإن الشِّرك/الكُفر هو الذنب الوحيد الذي يُحبِط جميع الأعمال الصالحة، باستثناء رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان ينطبق خلال حياته”، هل كان رفع الصوت فوق صوت النبي خلال حياته كُفرًا بحدِّ ذاته أم كان مجرد ذنب يؤدي إلى الكُفر، إذا نتج عنه عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك أي من أهل العلم من أهل السنة والجماعة من يرى أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان عملاً غير الكُفر الأكبر يُحبِط جميع الأعمال الصالحة؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

لا يجوز رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) الحجرات/2.

وهذا الرفع للصوت فوق صوت النبي، صلى الله عليه وسلم، وشرَّف وكرَّم: معصية في أصله؛ ولا يمنع ذلك أن تحبط من عمل صاحبها ما شاء الله تعالى، أن تحبط. وليس هذا ببدع من الأعمال، بل لها نظائر أخرى من السيئات والمعاصي الكبار، التي تحبط من عمل صاحبها ما تحبط، وإن لم تكن ردة في نفسها.

قال ابن القيم، رحمه الله: " وأكثر الناس ما عندهم خَبَرٌ من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ ‌تَحْبَطَ ‌أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)} [الحجرات: 2].

فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردَّة، بل معصيةٌ يحبط بها العمل وصاحبُها لا يشعرُ بها .

فما الظَّنُّ بِمَنْ قَدَّم على قولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قولَ غيره وهديَه وطريقَه؟! أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟!

ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" .

ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعِينة: "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب" .

وليس التبايُع بالعِينة رِدَّةً، وإنما غايته أن يكون معصية.

فمعرفةُ ما يفسدُ الأعمال في حَالِ وقوعها، ويبطِلُها ويحبطُها بعد وقوعها مِنْ أهم ما ينبغي أن يُفَتِّشَ عليه العبد، ويحرص على علمه، ويحذره.". انتهى، من "الوابل الصيب" (20).

وينظر للفائدة: "زاد المعاد" (3/519-520)، "مدارج السالكين" (1/430-435).

ثانيا:

ومع كون هذه المعصية الكبيرة، ليست كفرا في أصلها، إلا أنها قد تفضي إلى الكفر الذي يحبط العمل، وهو الاستهانة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الاستهانة به كفر.

قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره: " وقوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ) مفعول من أجله، أي مخافة أَنْ تَحْبَطَ، والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء، وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرِّضة بمن يفعل ذلك استخفافا واستحقارا وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته.

وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال: أن تحبط الأعمال التي هي معدّة أن تعملوها فتؤجروا عليها. ويحتمل أن يكون المعنى: أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة. وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة: وأنت لا تشعر؛ لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «فتحبط أعمالكم»" انتهى من "المحرر الوجيز" (5/ 145).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: " (الخامس) : أن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة. والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان.

قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه. وقال تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} مطابق لقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به} . فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.

وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} لأن ذلك كفر.

وقوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} لأن ذلك قد يتضمن الكفر، فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط.

ولا ريب أن المعصية قد تكون سببا للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر؛ فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط؛ كما قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} – وهي الكفر – {أو يصيبهم عذاب أليم}" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/ 493).

وقال رحمه الله في "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، ص54: " فوجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض؛ لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر، فإنه علل نهيهم عن الجهر، وتركهم له، بطلب سلامة العمل عن الحبوط. وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل، وانعقاد سبب ذلك، وما قد يفضي إلى حبوط العمل: يجبُ تركه غايةَ الوجوب.

والعمل يَحبط بالكفر قاله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} … فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي، والجهر له بالقول: يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر، ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك، وسبب فيه؛ فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، أو استخفاف به، وإن لم يقصد الرافع ذلك.

فإذا كان الأذى والاستخفاف، الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه، يكون كفرا؛ فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد: كفر بطريق الأولى " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس فيه: أنه قد يحبط عمله من حيث لا يشعر, لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالرسول ردة عن الإسلام توجب حبوط العمل" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (110/ 3).

والحاصل:

أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم معصية، لكنها قد تفضي إلى الكفر الذي هو الاستهانة، والاستخفاف، فيحبط العمل.

أو أن المراد أنها معصية تُحبط البر والأدب الواجب في حقه صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله: "تحبط أعمالكم": عام أريد به الخصوص، كما أشار إليه ابن عطية.

وقال ابن عاشور: "ويجوز أن يُراد: حبط بعض الأعمال، على أنه عام مراد به الخصوص، فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم، بغلبة عِظَمِ ذنب جهرهم له بالقول" انتهى من "التحرير والتنوير" (26/ 222).

والذنوب قد تحبط بعض الأعمال، كإحباط المنّ للصدقة، وإحباط الربا للجهاد كما جاء عن عائشة رضي الله عنها.

وينظر: جواب السؤال رقم: (81874)، ورقم: (107241).

ثالثا:

يتلخص مما سبق أن حبوط العمل كله: لا يكون إلا بالكفر، والردة عن دين الإسلام.

وأما حبوط شيء من العمل، أو ثوابه: فهذا قد يحصل بالمعاصي التي هي دون الكفر.

قال ابن القيم، رحمه الله:

" و‌‌الحبوط نوعان: عامٌّ، وخاصٌّ.

فالعام: حبوط الحسنات كلِّها بالرِّدَّة، والسَّيِّئات كلِّها بالتَّوبة.

والخاص: حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعضٍ، وهذا حبوطٌ مقيَّدٌ جزئيٌّ، وقد تقدَّم دلالة القرآن والسُّنَّة والآثار وأقوال الأئمَّة عليه.

ولمَّا كان الكفر والإيمان كُلٌّ منهما يُبْطِل الآخرَ ويذهِبُه كانت شُعب كلِّ واحدٍ منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإنْ عظمت الشُّعبة أذْهَبَت في مقابلتها شعبًا كثيرة.

وتأمَّل قول أم المؤمنين في مُسْتَحلِّ العِيْنة: "إنَّه قد أبْطَل جهادَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كيف قويت هذه الشُّعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم على إبطال محاربة الكفار. فأبطل الحِرابُ المكروهُ الحِرابَ المحبوبَ، كما تُبْطِل محاربةُ أعدائِه التي يحبُّها محاربَتَه التي يبغضُها. والله المستعان." انتهى، من كتاب "الصلاة" (113).

وينظر تفصيل ذلك، والرد من خالف فيه، عند شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "فصل في تزكية الأنفس" – ط مفردا- ت: فواز العوضي (37) وما بعدها.

والله أعلم.
 

العقيدة تفسير القرآن
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب