أنا شخص فقير، ولله الحمد، وعليّ ديون كثيرة، بعضها أستطيعه، وبعضها لا أستطيعه، وأحيانا تتوفر لدي بعض الأموال التي أستطيع بها السداد، ولا أعرف كيف أوزان بين مصروفي ومتطلباتي التي أنجزها بالمال، وحتى لا أكون ظالماً؛ لأن التسديد حسب الاستطاعة، لكن ما هو الضابط؟
الحمد لله.
أولاً:
اعلم أخي الكريم أنّ الشريعة شددت أيما تشديد في الدين ووجوب إبراء الذمة منه، فعلى المسلم أن يحرص على قضاء ديونه بكل جهده، ولا يسوف فيها.
فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ” كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟)، قَالُوا: لَا، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟). قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟). قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟). قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟). قَالُوا: لَا، قَالَ: (فَهَلْ عليه دين؟). قالوا: ثلاثة دنانير، قال: (صلوا عَلَى صَاحِبِكُمْ). قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ” البخاري (2168).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ، إِلَّا الدَّيْنَ) رواه مسلم (1885).
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ (أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَعَمْ. إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيْفَ قُلْتَ؟) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَعَمْ. وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ. إِلَّا الدَّيْنَ. فَإِنَّ جبريل عليه السلام، قال لي ذلك) رواه مسلم (1885).
وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) رواه ابن ماجه (2414)، وصححه الألباني.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ” من كان عليه دين، فأيسر به فلم يقضه فهو كآكل السحت ” رواه عبد الرزاق في مصنفه (16308).
وقد سبق في الموقع إجابة مفصلة في بيان خطر الدين فيحسن الرجوع إليها: (71183).
ثانياً:
وأما سؤالك عن : ما هو الضابط في ترتيب أمور السداد والموازنة بين مصروفاتك وقضاء ديونك الكثيرة.
فالضابط أنّ لك من ذلك ما تحتاجه لنفقاتك الأساسية، من طعام، وملبس ومسكن، لك ولمن تعوله، إن كان لك زوجة وأولاد، أو من تجب عليك نفقتهم؛ ثم ما زاد على ذلك، تعلق به حق الدائنين، فيجب عليك شرعاً أن توفيهم حقهم، ولا يجوز لك حتى الصدقة بما يضر أداء الدين.
قال الإمام البخاري، رحمه الله: ” باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله وكذلك آثر الأنصار المهاجرين ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة وقال كعب رضي الله عنه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر” انتهى، من “صحيح البخاري” (2/112).
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله:
“ومن عليه دين، أو له من تلزمه نفقته: يستحب أن لا يتصدق حتى يؤدي ما عليه.
قلت: الأصح تحريم صدقته بما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقته، أو لدين لا يرجو له وفاء” انتهى من “مغني المحتاج” (4/ 197).
وجاء في “الموسوعة الفقهية الكويتية” (3/269).
“فقد ذهب جمهور الفقهاء (المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة) إلى أن القاضي يبيع ما عند المدين، جبرًا عنه، عدا حاجاته الضرورية، ويقضي دينه”
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
“سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن المدين، هل يتصدق أو لا؟
قال: بالشيء اليسير، كالخبزة وشبهها. وأما ما يضر بالغرماء فلا يجوز.
على أننا نرى أنه لا يجوز أن يتصدق، ولو بالقليل؛ ما دام عليه دين أكثر مما عنده من المال” انتهى من “الشرح الممتع على زاد المستقنع” (9/278).
ثالثاً:
الواجب أن تقدم من حلّ دَينه، على غيره من الديون المؤجلة؛ لأنّ الديون المؤجلة فيها سعة حتى يحل أجلها.
وذلك أنّ أصحاب الديون المؤجلة لا يستحقون ما لهم إلا عند حلول الأجل.
قال الشوكاني رحمه الله: “المستقرض قبض المال على التأجيل، فلا يجب عليه قضاؤه إلا عند انقضاء الأجل وتمامه. وتأجيل الدين قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز فقال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
وليس فائدة الكتابة إلا حفظ قدر الدين، وقدر أجل تسليمه.
ومما يدل على لزوم التأجيل حديث: “المؤمنون عند شروطهم”، [أبو داود “6594”، أحمد “2/366”].
وقد ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة وجوب الوفاء بالعقود، وهي ما يحصل عليه التراضي؛ فليس لمن أقرض قرضا مؤجلا، أن يطلب قضاءه قبل حلول أجله” انتهى من “السيل الجرار” (ص:550).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“والصحيح: أنه إذا أجَّله ، ورضي المُقْرِض : فإنه يثبت الأجل ، ويكون لازماً ، ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل. وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد، بل هو من تمام مقتضى العقد؛ لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان ، وإذا أجلته صار ذلك من تمام الإحسان ، فالأرفق للمقترض التأجيل.
ومن وجه آخر: أن الله تعالى قال: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )، وهذا عقد شرط فيه التأجيل ، فيجب أن يُوفى به ؛ لأن أَمْرَ اللهِ تعالى بالوفاء بالعقود ، يشمل الوفاء بأصلها والوفاء بوصفها” انتهى بتصرف يسير من “الشرح الممتع على زاد المستقنع” (9/101).
رابعاً:
مما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام: أنّ على المسلم أن يتبع السياسة المالية القرآنية التي امتدح الله أصحابها بقوله:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان/67.
وأن تكون نفقته حسب قدراته المالية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) الطلاق/7.
وذلك أن الخروج عن هذا المنهج يؤدي بصاحبه إلى الحاجة والاستدانة، كما قال تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء : 29].
فالاقتصاد وحسن التدبير من الأسباب التي تعصم المرء من الإغراق في الديون، إذ غالب الديون سببها إنفاق المال في الكماليات.
وقد ترجم الإمام البخاري، رحمه الله في كتابه “الأدب المفرد”: بَابُ الرِّفْقِ فِي الْمَعِيشَةِ.
ثم روى فيه (471) عن كثير بن عبيد، قَالَ: ” دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: أَمْسِكْ حَتَّى أَخِيطَ نَقْبَتِي فَأَمْسَكْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ خَرَجْتُ فَأَخْبَرْتُهُمْ لَعَدُّوهُ مِنْكِ بُخْلًا، قَالَتْ: أَبْصِرْ شَأْنَكَ، إِنَّهُ لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا يَلْبَسُ الْخَلَقَ”.
نسأل الله العظيم أن يقضي دينك ويفتح لك أبواب الخير.
والله أعلم.