الحمد لله.
أولا :
إذا ادعت المرأة أنها كانت متزوجة ثم طلقت وانتهت عدتها ، فهل يقبل قولها أم لابد من بينة تثبت طلاقها ؟ في ذلك خلاف للفقهاء .
فمنهم من قال : يقبل قولها ، وتصدّق في ذلك ؛ لأنها مؤتمنة على نفسها .
ومنهم من قال : إذا غلب على الظن صدقها جاز تصديقها .
ومنهم من فرق بين الغريبة عن البلد والتي في البلد ، فيقبل قول الأولى ، وأما التي في البلد فلا تزوج حتى تثبت الطلاق ببينة .
ومنهم من فرق بين إخبارها عن الطلاق من زوج معين ، كأن تقول : تزوجت فلانا ثم طلقني ، وبين إخبارها عن الزواج من غير معين ، ففي الصورة الأولى لابد أن تأتي ببينة على أنها طلقت منه .
وهذا طرف من كلام الفقهاء :
قال في "المبسوط" (5/151) : " وإذا قالت : طلقني زوجي أو مات عنى وانقضت عدتي حل لخاطبها أن يتزوجها ويصدقها ; لأن الحل والحرمة من حق الشرع ، وكل مسلم أمين مقبول القول فيما هو من حق الشرع , إنما لا يقبل قوله في حق الغير إذا أكذبه من له الحق , ولا حق لأحد هنا فيما أخبرت به , فلهذا جاز قبول خبرها في ذلك , والله تعالى أعلم بالصواب " انتهى.
وقال في "البحر الرائق" (4/64) : " و[أشار] بقبول قول المطلقة إلى أن منكوحة رجل قالت لآخر : طلقني زوجي , وانقضت عدتي ، جاز تصديقها إذا وقع في الظن صدقها " انتهى .
وسئل عليش المالكي رحمه الله ، كما في " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" (2/78) : " ( ما قولكم ) في امرأة حضرت من الفيوم إلى القليوبية وقالت كنت متزوجة في الفيوم , وطلقني زوجي منذ شهرين , ومعها وثيقة متضمنة طلاقها وتاريخه بختم نائب القاضي في البلد الذي كانت فيه , وأرادت التزوج بعد وفاء العدة من تاريخ الوثيقة فهل تمكن من ذلك ؟ أفيدوا الجواب .
فأجبت بما نصه : الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، نعم تُمكّن من ذلك لأنها مصدقة في دعواها الطلاق , وانقضاء العدة في الصورة المذكورة ، خصوصا وقد ترجحت دعواها بوثيقة القاضي ، هذا مفاد النصوص ، لكن ينبغي زيادة التثبت في هذا الأمر الآن ، لما شوهد كثيرا من تخليط النساء وتزويجهن أزواجا معا ، نسأل الله السلامة والعافية " انتهى .
وقال الزركشي في "المنثور في القواعد" (1/171) : " ولو قالت : طلقني زوجي فلان وانقضت عدتي وطلبت من الحاكم تزويجها ، ففي أدب القضاء للدبيلي : إن كانت غريبة والزوج غائب ، فالقول قولها بلا بينة ولا يمين ، وإن كان الزوج في البلد وليست غريبة ، فلا يعقد الحاكم عليها حتى تثبت ما ادعته .
وأطلق الرافعي في فصل التحليل قبول قولها عند الاحتمال ... ونقل ( قبل ) دعوى النسب عن فتاوى البغوي : أنه إذا حضر عند القاضي رجل وامرأة ، واستدعت تزويجها من الرجل ، وذكرت أنها كانت زوجة فلان وطلقها أو مات عنها، : لم يزوجها القاضي ما لم تقم حجة على الطلاق أو الموت لأنها أقرت بالنكاح لفلان " انتهى .
وسئل الرملي الشافعي : " عن امرأة قالت : إن زوجها (فلانا) طلقها أو مات عنها وانقضت عدتها ، هل للحاكم أن يزوجها بلا بينة ؟ ( فأجاب ) بأنه ليس للحاكم أن يزوجها حتى تقيم بينة بما قالته ، لأنها أقرت له بالنكاح والأصل بقاؤه ، وهذا بخلاف ما إذا أقرت به لغير معيّن ، وعليه يحمل ما حكاه الدبيلي في أدب القضاء [ وذكر ما نقله الزركشي سابقا ] ، وما ذكره القاضي في فتاويه أن المرأة لو ادعت على الولي وفاة الزوج أو طلاقه فأنكر ، فإنها تحلف ويأمره الحاكم بتزويجها ، أو يزوجها الحاكم " (3/161).
وقال أيضا (3/153) : " والحاصل أن المعتمد أن المرأة إذا ادعت طلاقا من نكاح معيّن لا يزوجها الحاكم حتى تثبت ، أو غير معين فله اعتماد قولها ، وقد قيل غير ذلك " انتهى .
والذي يظهر أن التحري مطلوب في هذه المسألة ، لاسيما مع فساد الزمان ، وكثرة الحوادث التي يتبين فيها أن العقد تم على امرأة متزوجة مخادعة ، ويبقى أن القاضي له الفصل في هذه المسألة ، فإن رأى قبول قولها زوّجها ، وإن رأى مطالبتها بالبينة ، أو لم يحصل له ظن بصدقها ، فإنه لا يزوجها حتى تثبت الطلاق .
والمعمول به الآن أن القاضي أو مأذون الأنكحة لا يزوج من ثبت زواجها سابقا وادعت الطلاق ، حتى تأتي بوثيقة الطلاق ، فلا ندري كيف تم العقد للرجل المذكور .
ثانيا :
إذا حصلت الريبة في كون المرأة مطلقة ، أو لا زالت على زواجها الأول ، فلأولاد المسئول عنه أن يتحروا الأمر بالسؤال عنها وعن زوجها الأول ، فإن تبين أنها لم تطلق من زوجها ، وجب إعلام أبيهم بذلك ، والتفريق بينه وبينها حتى تنقضي عدتها منهما ، ويرفع الأمر إلى القاضي ليفصل في المسألة ، ولا يجوز لهم السكوت إن علموا بذلك ؛ لأن الزواج من المرأة المنكوحة للغير قبل طلاقها وانقضاء عدتها ، زواج باطل ، والمقدم عليه مقدم على الزنا إن كان يعلم حقيقة الأمر .
لكن ننبه هنا إلى أمرين :
الأول : أن يراعي الأبناء حق أبيهم ومنزلته ومكانته ، فلا يؤذونه بالحديث في هذه المسألة . ولو فرض أنهم اطلعوا على ما ينكر ، فإنهم يبحثون عن الوسيلة الملائمة لنصح أبيهم ، ولو وسطوا غيرهم كان أولى ، مراعاة لخاطره ، وحفظا على ما بينهم من المودة .
الثاني : ألا يكون الحامل لهم على الشك والريبة والاتهام كراهيتهم لزوجة أبيهم ، لكونها أجنبية أو لكون أبيهم تزوجها مع كبر سنه ، أو غير ذلك من الأمور الخاصة التي لا تخفى على علام الغيوب سبحانه ، فليتقوا الله تعالى ، وليقولوا قولا سديدا ، وليحذروا من اتهام البريء ، وليقدموا حسن الظن ، وليمسكوا ألسنتهم عن قول ما يسيء إليهم وإلى أبيهم ، ما لم يظهر لهم أمر لا يمكن السكوت عليه .
وقد قال صلى الله عليه وسلم ( مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلا بِالدِّرْهَمِ ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ ) رواه أبو داود (5129) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
والردغة : الطين والوحل وما يسيل من عصارة أهل النار .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى .
والله أعلم .