حديث هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان
أود أن أعرف رأيكم بشأن شرح الحديث رقم (990) في صحيح البخاري ، الذى لَمْ يَدعُ فيه النبى صلى الله عليه وسلم لِنَجد ، حيث قال : إن الفتنة والزلازل ونفير الشيطان سيخرجون من نجد . وقد سمعت بعض العلماء يشيرون إلى هذا الحديث عند الحديث عن علماء نجد ، كالشيخ عبد الوهاب رحمه الله ، كما يصح القول بأن كثيرا من زعماء الحركة السلفية ينحدرون من نجد . فما هو الشرح الصحيح لهذا الحديث الصحيح .
الجواب
الحمد لله.
أولا :
الحديث المقصود في السؤال جاء عن جماعة من الصحابة ، ورواه عنهم جماعة كبيرة من
التابعين ، وأنقل واحدا من هذه الأحاديث ، فهي متقاربة في اللفظ والمعنى :
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي
شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ :
هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ )
رواه البخاري (1037) ومسلم (2905) ، واللفظ
للبخاري .
ثم الكلام على هذا الحديث في مسائل :
المسألة الأولى :
من المعلوم لدى أهل العلم أن ما ورد في الكتاب أو السنة من النصوص التي فيها تفضيل
بعض الأماكن أو الأقوام على بعض ، لا يعني ذلك أبدا تفضيلا لكل من انتسب إلى ذلك
المكان ، أو لأولئك القوم ، على غيرهم من البشر ، وكذلك ما ورد في النصوص من ذم بعض
الأماكن ، وذكر ما فيها من الشر ، فلا يعني ذلك – بأي حال من الأحوال – ذم وانتقاص
جميع من ينتمي إلى ذلك المكان .
والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
الحجرات/13
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ
وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )
رواه مسلم (2564)
فميزان الصلاح والفساد هو القلب والعمل ، وليس القبيلة أو العرق أو الجنس أو اللون
، وهذا التقرير متفق عليه بين أهل العلم .
روى مالك في "الموطأ" (1459) عن يحيى بن سعيد : أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان
الفارسي أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة – يعني بلاد الشام - ، فكتب إليه سلمان : إن
الأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُهُ "
انتهى
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (27/45-47) :
" وهو كما قال سلمان الفارسى ، فإن مكة حرسها الله تعالى أشرف البقاع ، وقد كانت فى
غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها ، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها
المهاجرون فيقيموا بها ، وقد كانت الشام فى زمن موسى عليه السلام قبل خروجه ببني
إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين ، وفيها قال تعالى لبنى إسرائيل: (
سأريكم دار الفاسقين )
فإن كون الأرض دار كفر أو دار السلام أو إيمان ، أو دار سلم أو حرب ، أو دار طاعة
أو معصية ، أو دار المؤمنين أو الفاسقين ، أوصافٌ عارضةٌ لا لازمة ، فقد تنتقل من
وصف إلى وصف ، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم ، وكذلك بالعكس .
وأما الفضيلة الدائمة فى كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح ، كما قال تعالى (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) الآية . وقال تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من
كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . بلى من أسلم وجهه
لله وهو محسن فله أجره عند ربه ) الآية
. وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم )
فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة فى فضل أهلها مطلقا ، بل يعطي كلَّ ذي
حقٍّ حقَّه ، ولكن العبرة بفضل الإنسان فى إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب .
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد : كتفضيل القرن
الثاني على الثالث ، وتفضيل العرب على ما سواهم ، وتفضيل قريش على ما سواهم ، فهذا
هذا والله أعلم " انتهى
.
المسألة الثانية :
وعليه فلا يجوز أن يفهم الحديث السابق على أنه ذم لجميع أهل نجد عبر التاريخ ، بل
وليس فيه ذم ( نجد ) مطلقا ، وإنما ورد الذم والتنفير عنها مقيدا بوجود الفتن
والشرور ، ولا يلزم أن يكون ذلك في جميع القرون مُطَّرِدًا ، بل قد يكون في عصر من
العصور منارة علم وهدى وفضل وخير .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "مجموعة الرسائل والمسائل" (4/265) :
" وعلى كل حال ؛ فالذم إنما يكون في حال دون حال ، ووقت دون وقت ، بحسب حال الساكن
؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل ، وإن كانت الأماكن تتفاضل ، وقد تقع
المداولة فيها ، فإن الله يداول بين خلقه ، حتى في البقاع ، فمحل المعصية في زمن قد
يكون محل طاعة في زمن آخر ، وبالعكس " انتهى
.
المسألة الثالثة :
ليس في لفظ الحديث ذم لأهل ( نجد ) وساكنيها ، وإنما فيه ذكر الفتن والشرور التي
ستقع وتخرج منها ، ولا يعني ذلك ذمَّ الساكنين مطلقا .
فقد جاء في السنة النبوية ذكر وقوع الفتن في المدينة المنورة ، كقوله صلى الله عليه
وسلم لأصحابه : ( إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ
كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ ) رواه البخاري
(1878) ومسلم (2885)
ولا يجوز أن يفهم من ذلك أي ذم لأهل المدينة المنورة .
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (ت 1326هـ) في كتابه "صيانة الإنسان عن
وسوسة دحلان" (ص/500) :
" وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقوع الفتن في المدينة
النبوية ، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه ، لزم ذم سكان المدينة
كلهم أجمعين ، وهذا لا يقول به أحد ، على أن مكة والمدينة كانتا في زَمَنٍ موضع
الشرك والكفر ، وأي فتنة أكبر منهما ، بل وما من بلد أو قرية إلا وقد كانت في زمن
أو ستصير في زمان موضع الفتنة ، فكيف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا ؟ وإنما
مناطُ ذم شخصٍ معينٍ كونُه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع "
انتهى
.
فالمقصود من الحديث هو ذكر ما سيقع في منطقة ( نجد ) من الفتن والبلايا العظيمة في
مرحلة من التاريخ ، وأنها ستكون كالزلازل التي تطال كل من فيها ، وسيكون كثير من
أهل تلك البلاد ضحايا الفتنة ، ولا يعني أن جميع أهلها هم من يُثيرُها ويقومُ عليها
، ومَن فهم ذلك من الحديث فقد أساء وظلم .
يقول الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (5/305) :
" وجهلوا أيضاً أنَّ كونَ الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنه هو مذموم
أيضاً إذا كان صالحاً في نفسه , والعكس بالعكس ، فكم في مكة والمدينة والشام من
فاسق وفاجر , وفي العراق من عالم وصالح , وما أحكم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء
حينما دعاه أن يهاجر من العراق إلي الشام : أما بعد , فإن الأرض المقدسة لا تقدس
أحداً , وإنما يقدس الإنسان بعمله " انتهى
.
المسألة الرابعة :
فسر العلماء المتقدمون هذا الحديث ، وقالوا المقصود بالفتن التي أخبر عنها النبي
صلى الله عليه وسلم هي فتنة مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة ، والشر الذي يأتي به ،
وما يلحقه من المتنبئين الكذابين .
يقول الحافظ ابن حبان رحمه الله كما في "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" (15/24) بعد
أن روى حديث عبد الله بن عمر أنه قال : ( ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشير نحو المشرق ويقول : إن الفتنة هاهنا ، إن الفتنة هاهنا ، من حيث يطلع قرن
الشيطان )
قال أبو حاتم رحمه الله : " مشرق المدينة هو البحرين ، ومسيلمة منها ، وخروجه كان
أول حادث حدث في الإسلام " انتهى .
كما فسره بعض أهل العلم أيضا بالفتن التي تحدث في ( العراق ) ، فهي في جهة المشرق
عموما بالنسبة لمن في الحجاز ، وفي العراق ( نجد ) أيضا ، فإن كل منطقة مرتفعة
بالنسبة لغيرها تسمى نجدا ، وقد شملها بعض الصحابة في فهمهم لهذا الحديث :
فعن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال : ( يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ! مَا
أَسْأَلَكُمْ عَنْ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ ! سَمِعْتُ أَبِي
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ
- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ ، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ
رِقَابَ بَعْضٍ ) رواه مسلم (2905)
فالحديث يشمل كل ( نجد ) : أي كل مرتفع من الأرض بالنسبة للحجاز في جهة المشرق ،
وذلك يشمل نجد الحجاز ونجد العراق .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (27/41-42) :
" هذه لغة أهل المدينة النبوية فى ذاك الزمان ، كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل
المشرق " انتهى
.
ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/47) :
" كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك
الناحية ، فكان كما أخبر ، وأول الفتن كان من قبل المشرق ، فكان ذلك سببا للفرقة
بين المسلمين ، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به ، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة .
وقال الخطابي : ( نجد ) من جهة المشرق ، ومَن كان بالمدينة كان نَجدُهُ باديةَ
العراق ونواحيها ، وهي مشرق أهل المدينة ، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض ، وهو خلاف
الغور فإنه ما انخفض منها ، وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة . انتهى كلام
الخطابي .
وعُرف بهذا وهاء ما قاله الداودي : أن ( نجدا ) من ناحية العراق ، فإنه توهم أن
نجدا موضع مخصوص ، وليس كذلك ، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع
نجدا ، والمنخفض غورا " انتهى كلام الحافظ
ابن حجر .
ويقول علامة العراق محمود شكري الآلوسي عن بلده العراق في "غاية الأماني" (2/148) :
" ولا بدع ، فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية ، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية
بعد رزية ، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى ، وفتنة الجهمية الذين
أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق ، والمعتزلة وما قالوه
للحسن البصري وتواتر النقل به...إنما نبغوا وظهروا بالبصرة ، ثم الرافضة والشيعة
وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت ، والقول الشنيع في علي وسائر الأئمة ومسبة
أكابر الصحابة..كل هذا معروف مستفيض " انتهى
باختصار .
وللشيخ "حكيم محمد أشرف سندهو" رحمه الله ، رسالة في بيان ما ذكرناه بعنوان : "
أكمل البيان في شرح حديث : نجد قرن الشيطان " ، وهي مطبوعة ، قال الشيخ عبد القادر
بن حبيب الله السندي في تقدمته لها ـ ص (8) ـ :
" والموضع الذي يُعَيَّن من قِبَل أهل الجهل والضلالة اليوم [ يعني : نجد المعروف
في السعودية ]
لم يقله أحد من السلف ولا من الخلف ، إلا بعد ظهور دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد
الوهاب رحمه الله ، التجديدية للدين الحنيف ، إلا هؤلاء الذين لم يفهموا هذه
العقيدة الصحيحة ، أو يتجاهلون عنها ، ولم يعرفوا التاريخ الإسلامي الصحيح الذي
يدلهم على تلك الفتن العظيمة التي ظهرت ظهورا واضحا بينا في ذلك النجد الحقيقي ...
" انتهى
.
المسألة الخامسة :
ويخطئ كثير من الناس حين يظنون أن المقصود بـ ( قرن الشيطان ) شخص معين ، إذ
المقصود هو مطلع الشمس وما يعتريها عند الشروق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (
فَإِنَّهَا – يعني الشمس - تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ )
رواه البخاري (3273) ومسلم (612)
ودليل ذلك ما في رواية البخاري (7092) : قال صلى الله عليه وسلم : ( الْفِتْنَةُ
هَا هُنَا ، الْفِتْنَةُ هَا هُنَا ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ،
أَوْ قَالَ : قَرْنُ الشَّمْسِ ) والشك من الراوي .
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/46) :
" وأما قوله: " قرن الشمس " فقال الداودي : للشمس قرن حقيقة ، ويحتمل أن يريد
بالقرن قوة الشيطان ، وما يستعين به على الإضلال ، وهذا أوجه ، وقيل إن الشيطان
يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له ، قيل : ويحتمل أن يكون للشمس
شيطان تطلع الشمس بين قرنيه " انتهى
.
المسألة السابعة :
فأي حجة تبقى بعد ذلك لمن استدل بهذا الحديث على ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه
الله ، ودعوته التجديدية ؟!!
وبأي برهان يُعَيِّنُ بعضُ الحاقدين - من غلاة المتصوفة ومن الرافضة - مقصودَ النبي
صلى الله عليه وسلم من الذم في واحد من أشهر علماء المسلمين ، وأشهر دعاة الإصلاح
في القرون المتأخرة ، والذي تحمل دعوة التوحيد علما وعملا ودعوة ، وعَدَّهُ أهلُ
العلم مجدِّدَ ذلك القرن؟!!
أهكذا تُفَسَّرُ الأحاديث النبوية ، بالهوى والتشهي !
وهكذا تحول الأحاديث لأغراض مذهبية أو عنصرية أو طائفية ؟!!
وانظر عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للفائدة : جوابَ السؤال رقم (36616)
والله أعلم .