الحمد لله.
من القواعد المقررة في شريعتنا أن " الضرورات تبيح المحظورات " ، وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة ، من الكتاب ، والسنَّة ، منها : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/ 173 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : ألجئ إلى المحرَّم ، بجوع ، أو عدم [يعني : عدم وجود طعام غير الميتة] ، أو إكراه .
(غَيْرَ بَاغٍ) أي : غير طالب للمحرَّم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه .
(وَلا عَادٍ) أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً ، فمَن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة : فلا يزيد عليها .
(فَلا إِثْمَ) أي : جناح عليه ، وإذا ارتفع الجناح - الإثم - : رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه ، فيجب إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلاً لنفسه , وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
ولما كان الحِلُّ مشروطاً بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها : أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصاً وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " ، فكل محظور اضطر إليه الإنسان : فقد أباحه له الملك الرحمن ، فله الحمد والشكر ، أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .
" تفسير السعدي " ( ص 81 ) .
ومن أدلة السنَّة :
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا مَخْمَصَةٌ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : (إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَغْتَبِقُوا وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا) رواه أحمد (36/227) ، وحسنه المحققون لطرقه وشواهده .
تصطبحوا : المراد به الغداء .
تغتبقوا : المراد به العشاء .
تحتفئوا : بقلا . أي : تجمعوا بقلاً وتأكلوه .
وقد مَثَّل العلماء على الضرورات تبيح المحظورات – غير أكل الميتة عند المخمصة - : إساغة اللقمة بالخمر , والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه , ودفع المعتدي ولو أدى إلى قتله .
انظر : "الأشباه والنظائر" ( ص 85 ) لابن نجيم .
والضرورة التي تبيح فعل المحرم هي :
ما يلحق العبد ضرر بتركه - وهذا الضرر يلحق الضروريات الخمس : الدِّين ، والنفس ، والنسل ، والعقل ، والمال .
وأما شروط إباحة المحرم للضرورة فقد قال الدكتور عبد الله التهامي – وفقه الله - في بيان ذلك :
"هناك شروط ، وقيود ، لا بد من حصولها في حالةٍ ما ؛ ليسوغ تسميتها ضرورة شرعية ، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه الضوابط ، وإليك بيان هذه الضوابط ، مع الاستدلال لها :
1. أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى الكليات الخمس ، كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة .
2. أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً ، أو ظنًّا غالباً ، ولا يلتفت إلى الوهم والظن البعيد ، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب ، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه ، فيجوز حينها تناول الميتة ، ودليل ذلك : ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط باليقين والظنون الغالبة ، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام ، والظنون المرجوحة البعيدة .
3. ألاّ يُمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة ، وعدم الامتثال للدليل المحرِّم ، فإن أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع : حرُم عليه ارتكاب المخالفة للدليل المحرم ، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز ، كأن يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء ، والخمر .
4. ألا يعارِض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها ، أو مثلها ، كأن يأكل المضطر طعام مضطر آخر ، ووجه ذلك : ما ورد من قواعد مثل : " الضرر لا يزال بمثله" انتهى من "مجلة البيان" (عدد 120 ، ص 8) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : "ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين :
1. أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا .
2. أن نعلم أن ضرورته تزول به" انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (3/19) .
وعلى هذا ، فشروط إباحة المحرم للضرورة هي :
1- وجود الضرورة .
2- ألا توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بفعل هذا المحرم .
3- أن يكون فعل المحرم مزيلاً للضرورة قطعاً ، فإن حصل شك هل تزول الضرورة بهذا الفعل أم لا؟ فلا يجوز فعل المحرم حينئذ .
4- ألا يعارض هذه الضرورة ما هو مثلها أو أعظم منها .
والله أعلم
تعليق