الحمد لله.
أولا :
جاءت الوصايا المؤكدة ببر الوالدين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما جاء التحذير الشديد والترهيب من عقوقهما .
قال الله عز وجل : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء/23، 24
قال الشيخ ابن عاشور رحمه الله :
" وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما أُفٍّ خاصة ، وإنما المقصود النهي عن الأذى ، الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة ، وبأنها غير دالة على أكثر من حصول الضجر لقائلها ، دون شتم أو ذم ، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأولى .
ثم عطف عليه النهي عن نهرهما ، لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى . والنهر: الزجر ، يقال : نهره وانتهره .
ثم أمر بإكرام القول لهما ، والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه ... ؛ وبهذا الأمر انقطع العذر ، بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه ، أو أن يحذره مما قد يضر به : أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع . " انتهى .
"التحرير والتنوير" (14/57) .
ثانيا :
لا شك أن بر الوالدين له ضوابط ثابتة لابد من مراعاتها ، كما أن هناك ضوابط غير ثابتة ، قد تختلف باختلاف الزمان والمكان وأجناس الناس .
فمن جملة الضوابط الثابتة :
- أن يكون برهما في المعروف ؛ لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) رواه البخاري (7257) ومسلم (1840) .
- أن يكون برهما بالمعروف ، وهو انتهاج مسلك الأدب والتوقير والاحترام حال الطاعة ، فلا يتبرم الولد أو يتسخط إذا أمراه ، وإن ائتمر بأمرهما وأطاعهما .
فيتقيد حال البر بالأخلاق الحسنة من خفض الجناح لهما ، وخفض الصوت عند الكلام بحضرتهما ، وانتخاب أطيب الألفاظ ، والتماس أرق المعاني .
ويتنزه عن الأخلاق الردية ، من رفع الصوت ، والتلويح باليد ، والإعراض ، وتقطيب الوجه وعبوسه .
كما يتنزه عن الألفاظ البذيئة ، ومخارج الكلام النابية ، والأسلوب الموحش المنفر ، ونحو ذلك.
- أن يلتمس ببرهما طاعة الله ، لا مجرد طاعتهما ، وهذا مما يتأكد به ضرورة التماس الأدب الشرعي وأخلاق الإسلام عند مخاطبتهما ومعاملتهما ، فمعاملتهما يتعلق بها حقان : حق الله تعالى ، وحق الوالدين ، فلا بد من مراعاة ما يدعو إليه الإسلام من كريم الأخلاق وجميل الصفات عند التعامل معهما ، ولا يقال : إنهما راضيان عن الولد وإن أعرض بجانبه ، وأشاح بيده ، واخشوشن في التعامل ، وتكلم معهما بشكل حاد ؛ فإن ذلك ليس من أخلاق الإسلام مع الغريب أو البعيد ، فكيف بالوالدين ؟
ومن كانت عادته التعامل بشكل حاد مع الآخرين فلا بد أن يغير من عادته ؛ فإنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم .
ثالثا :
هناك أمور وتصرفات وأقوال ، لم يرد في الشرع حكم بخصوصها ؛ لكن يتفق الناس عليها ، في مكان ما ، أو زمان ما : أنها من سوء الأدب والعشرة ، فهذه يجب التنزه عنها مع الوالدين ، وترك مواجهتهما بها ؛ حتى وإن لم يظهرا غضبا ، لأن الوالدين كثيرا ما يغضبان ، لكنهما يكتمان ذلك ، أو يصبران على الأذى إيثارا لابنهما ، ورحمة به : فهذا لا يعني أن ذلك جائز ، بل يحرم أيضا مواجهتهما بمثل ذلك .
وهناك أمور أخرى : اعتادها الناس في ذلك المكان ، أو ذلك الزمان ، ولا يعدون ذلك من سوء الأدب ، أو الإيحاش في الخطاب : فهذا لا بأس في مواجهة الوالدين به في ذلك الزمان أو المكان ، وإن كان في بلد آخر ، أو زمان آخر قد يعده الناس جفاء وغلظة وسوء أدب ؛ فمثل هذه الأمور يرجع في تقديرها إلى ما تعارفه الناس واعتادوه .
وما تردد بين هذين ، واضطرب فيه عرف الناس : بحيث يعده بعض الناس جفاء وغلظة ، ولا يعده آخرون كذلك ، فمقتضى الأدب مع الوالدين التنزه عنه ؛ لا سيما وقد تقدم أمر الشرع بالتنزه عن أدنى التضجر والشدة في القول بأن يقول : ( أف ) ؛ فهذه تنبيه على وجوب الاحتراز في معاملتهما ، والمبالغة في رعاية الأدب معهما .
راجع جواب السؤال رقم : (35533) .
والله تعالى أعلم .
تعليق