الحمد لله.
قد أحسنت في اهتمامك بقضاء ديون والدك ، وقد اهتم الشرع بأمر الدين من وجوه كثيرة ، منها:
أن هذه الديون يستوفيها
صاحبها يوم القيامة من حسنات المدين ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا
الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ
، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ
وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ
هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ
وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا
عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)
رواه مسلم ( 2581 ) .
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ
حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) رواه ابن ماجه ( 2414 ) ، وصححه
الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : يا حمران ، اتق الله ، ولا تمت وعليك ديْن ، فيؤخذ
من حسناتك ، لا دينار ثَمَّ ولا درهم .
" مصنف عبد الرزاق " ( 3 / 57 ) .
وعَن صُهَيْب الْخَيْرِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا
يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا ) .
رواه ابن ماجة ( 2410 ) ، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا
أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ )
رواه البخاري ( 2257 ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قوله : ( أتلفه الله ) : ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا ، وذلك في معاشه أو في
نفسه ، وهو علَم من أعلام النبوة ؛ لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من
الأمرَين .
وقيل : المراد بالإتلاف عذاب الآخرة , قال ابن بطال : فيه الحض على ترك استئكال
أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس
العمل .. .
وفيه : الترغيب في تحسين النية والترهيب من ضد ذلك وأن مدار الأعمال عليها .
" فتح الباري " ( 5 / 54 ) .
وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الجنازة على رجل مات وعليه ديناران .
رواه أحمد ( 3 / 629 ) وحسَّنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 5 / 101 ) ، وصححه
الألباني في " صحيح الترغيب " ( 1812 ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمرِ الدَّين ، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة .
" فتح الباري " ( 4 / 547 ) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء : ما حكم المماطلة في تسديد الدين ؟ .
فأجابوا :
"مَن كان قادراً على الوفاء لدَيْنه : فإنَّه يحرُم عليه المماطلة في تسديد ما وجب
في ذمته إذا حلَّ أجله ؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : (مطْلُ الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه .
فعلى مَن عليه دينٌ أن يبادر بوفاء ما في ذمته من حقوق الناس ، وليتق الله في ذلك
قبل أن يفاجئه الأجل وهو معلق بديونه" انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 13 /
172 ) .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، الشيخ صالح الفوزان ، الشيخ
بكر أبو زيد .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"حقوق العباد إما مالية وإما بدنية ، فإن كانت تتعلق ببدن الشخص : فالتخلص منها :
ألا يمانع الإنسان مَن له الحق في أخذها ، فإذا وجب عليه قصاص في جرح أو في عضو من
الأعضاء : فالتخلص مِن ذلك أن يمكن مَن له الحق من الأخذ بالقصاص ، وأما إذا كانت
مالية : فإنَّ التخلص مِن ذلك أن يؤدي الحق إلى صاحبه ، فيؤدي المال إليه إن كان
موجوداً ، أو إلى ورثته إن كان معدوماً ، فإن لم يكن له ورثه : أدَّى ذلك إلى بيت
المال ، وبهذا يتخلص منه ، أما إذا عجز عن أداء الحقوق إلى أهلها : فإنه قد ثبت في
الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى
الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) فإذا كان هذا الإنسان حريصاً على
الأداء ، ساعياً فيه ما أمكن ، ولكنه عجز ، وكان من نيته أن يؤدي : فإن الله تعالى
يؤدي عنه الحق لمَن له الحق بمنِّه وكرمه ، وتبقى ذمة هذا العاجز بريئة ، وأما مَن
أخذ أموال الناس لا يريد أداءها ، وإنما يريد إتلافها عليهم ، وأكلها بالباطل : فإن
الله تعالى يتلفه بالنقوص في أمواله ، وربما يتلفه أيضاً بالأخذ من حسناته ، كما
جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( من تعدون المفلس فيكم ؟
قالوا : من لا درهم عنده ولا متاع ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال
الجبال ثم يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته
وهذا من حسناته فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في
النار ) .
وعلى المرء أن يتخلص من حقوق العباد ما دام في زمن المهلة ، وأن يؤديها إليهم ،
وألا يماطل بها ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( مطل الغني ظلم )" انتهى .
" فتاوى نور على الدرب " .
وعلى هذا ، فمن مات من الدائنين انتقل الحق إلى ورثته .
وأخيراً .. لتعلم أخي السائل أن حرصك على قضاء ديون والدك وخوفك عليه عمل صالح ومن
الإحسان إليه ، غير أن قضاء هذه الديون ليس واجباً عليك ، فإذا أصر والدك على عدم
قضائها ، أو لم يستطع ذلك فلا إثم عليك .
على أنه يظهر من كلامك أن والدك ليس معه من الأموال ما يقضي هذه الديون ، وعلى هذا
، فلو ذهبت إلى أصحاب هذه الديون واستسمحتهم فالغالب أنهم سيرضون بذلك ، تقديراً
لظروف والدك .
والله أعلم
تعليق