الحمد لله.
لم يأت في السنة نص واضح في تحديد الوقت الذي ينبغي أن يكون بين الأذان والإقامة ، فالأمر في ذلك راجع إلى ما تعارف عليه أهلُ كلِّ مسجد ، مع مراعاة أن يكون بين الآذان والإقامة الوقت الكافي للاستعداد للصلاة، ليتمكن الناس من حضور الجماعة ، وإدراك الصلاة من أولها .
قال ابن بطال :
" أمَّا كم بين الأذان والإقامة في الصلوات كلها ؟ فلا حَدَّ في ذلك أكثرَ من اجتماع الناس ، وتمكُّن دخول الوقت ". انتهى من " شرح صحيح البخاري" (2/252) .
وينظر جواب السؤال (97009) .
ولكن ينبغي في ذلك مراعاة جملة من الأمور :
أولاً : أن تحديد وقت الإقامة من حق الإمام .
وعليه في ذلك أن يراعي مصلحة أهل المسجد في وقت الإقامة ، فإن كان المسجد في مكان يجتمع فيه الناس سريعاً ، أو كان ضمن سوق تجاري ، فإنه يُعجل في ذلك ، وإن كان في حي تعارف أهله على التأخير ، أخر الإقامة .
فعنْ سَالِم أَبِي النَّضْرِ : أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا رَأَىَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَلِيلاً جَلَسَ حَتَّى يَرَى مِنْهُمْ جَمَاعَةً ثُمَّ يُصَلِّي ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ فَرَأَى جَمَاعَةً أَقَامَ الصَّلاَةَ. رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/19) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3219) .
قال الخطيب الشربيني:
"يسن أن يفصل المؤذن والإمام بين الأذان والإقامة بقدر اجتماع الناس في مكان الصلاة ، وبقدر أداء السنة التي قبل الفريضة". انتهى من "مغني المحتاج" (1/138) .
وكذلك في صلاة الفجر يراعي الوقت الكافي للاستيقاظ والوضوء والغسل ولبس الثياب ونحو ذلك .
ثانياً : صلاة المغرب يُعجَّل بها في جميع الأحوال ، ولا تؤخر إقامتها إلا بقدر الوضوء وصلاة ركعتين فقط .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ كَذَلِكَ ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ شَيْءٌ . رواه البخاري (625) .
وفي لفظ : ( لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَلِيلٌ ) .
وعن رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قال : كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ. رواه البخاري (558) ومسلم (637).
قال النووي :
" مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُبَكِّر بِهَا فِي أَوَّل وَقْتهَا بِمُجَرَّدِ غُرُوب الشَّمْس ، حَتَّى نَنْصَرِف وَيَرْمِي أَحَدنَا النَّبْل عَنْ قَوْسه وَيُبْصِر موقعه لِبَقَاءِ الضَّوْء .
وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمَغْرِب تُعَجَّل عَقِب غُرُوب الشَّمْس وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ " . انتهى من " شرح صحيح مسلم" (5/136).
قال الحافظ ابن رجب :
" وقد أجمع العلماء على أن تعجيل المغرب في أول وقتها أفضل ". انتهى من "فتح الباري" (3/163).
ثالثاً : ورد في بعض الأحاديث الصحيحة ما يدل على استحباب تأخير إقامة صلاة العشاء ، وشرط ذلك أن لا يكون هناك مشقة على الناس في هذا التأخير .
ويدل على ذلك ما رواه مسلم (638) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَصَلَّى ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَوَقْتُهَا ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي .
قال النووي:
" فَفِيهِ تَفْضِيل تَأْخِيرهَا ، وَأَنَّ الْغَالِب كَانَ تَقْدِيمُها ، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا لِلْمَشَقَّةِ فِي تَأْخِيرهَا ". انتهى من " شرح صحيح مسلم" (5/ 138) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"صلاة العشاء الأفضل فيها التأخير إذا لم يشق على الجماعة" انتهى من "مجموع الفتاوى " (12/191) .
وينظر جواب السؤال (117751) .
رابعاً : في بعض البلاد تعارف الناس على أوقات محددة بين الإقامة والأذان ، وقد يكون في ذلك تعميم من وزارة الأوقاف التابعة لها ، فينبغي للإمام أن يتقيد بهذا الوقت حتى لا يقع الناس في الاضطراب ، وقد تفوت منهم صلاة الجماعة بسبب هذا .
وفي بلاد الحرمين صدرت فتوى من المفتي العام السابق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله بتحديد الأوقات بين الأذان والإقامة جاء فيها : " نظرًا لما يلاحظ من اختلاف الأَئمة والمؤذنين بالنسبة إِلى الإِقامة ، فتجد بعضهم يصلى قبل بعض ... ولما في ذلك من تشويش وارتباك .. فقد نظرنا فيما يخلص من هذا الأمر ويجمع الناس على أَمر واحد فيه مصلحة عامة للمسلمين ، وقررنا توحيد وقت الإِقامة لما في ذلك من تحصيل المصالح ودرء المفاسد.
فقد تقرر أَن يكون بين الأَذان والإِقامة لصلاة الفجر والظهر والعصر والعشاء مقدار ثلث ساعة - عشرون دقيقة - ، وأما المغرب فلا يُؤخر أَكثر من عشر دقائق ، لما ورد فيها من النصوص الدالة على تعجيلها ...
ونظرًا لما يعرض لبعض الأَئمة والمؤذنين مما قد يضطرهم للتأْخير عن تلك الأَوقات المحددة ، سواء باختيارهم أَو بغير اختيارهم ، ولما في تأْخير الناس وحبسهم عن أَشغالهم واِشتغال خواطرهم ما لا يخفى ، وفيهم المريض والكبير وذو الحاجة ، فإِن على كل إِمام ومؤذن أَن يشعر الجماعة إِذا أَراد أَن يتغيب ، ويأْذن لهم إِذا تأَخر عن الوقت المقرر أَن يصلوا في نفس الوقت المقرر ، كما عليه أَن يعين له نائبًا يؤذن ويصلي بالناس ؛ لئلا يحبس الناس دون أَشغالهم وحوائجهم ". انتهى من "فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (2/99).
خامساً :
إذا رأى إمام المسجد تأخير إقامة الصلاة لمصلحة يراها ، وكان في ذلك مشقة على أهل المسجد ، فينبغي أن يناصحوه في ذلك ، فإذا تبين له أن في التأخير مشقة عليهم رجع إلى ما يريدون ، كما سبق في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤخر إقامة صلاة العشاء ، ـ مع أن تأخيرها أفضل ـ لما في ذلك من المشقة على المصلين .
فإن استجاب لكم فبها ونعمت ، وإن لم يستجب ، فليس لكم مخالفته وإقامة الصلاة في المسجد دون إذنه والانفراد عن جماعة المسجد ، بل في هذا مفسدة أعظم من مفسدة تأخير الإقامة ، وهي تفريق كلمة المسلمين ، والاعتداء على حق إمام المسجد ، مما هو مدعاة للفوضى وكثرة الشغب والقيل والقال في بيت الله .
وبإمكانكم ترك الصلاة في هذا المسجد ، والصلاة في غيره من المساجد ، فإن لم يكن ذلك في المستطاع ، فليس لكم إلا انتظار الإمام .
قال علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي :
" يوجد في كثير من الجوامع الكبيرة أناسٌ يفتاتون على الإمام الراتب ، أي : يتقدمون بالصلاة جماعة عليه قبل أن تقام له ، فيختزلون من الجامع ناحية يؤمون بها أناساً على شاكلتهم ، رغبة في العجلة ، أو حباً في الانفراد للشهرة .
وقد اتفقت الحنابلة والمالكية على تحريم أن يُؤم في مسجد قبل إمامه الراتب... وكره ذلك الشافعية ، وأفتى ابن حجر بمنعه بتاتاً، وصرح الإمام الماوردي من الشافعية بتحريم ذلك في مسجد له إمام راتب ، وكره ذلك الحنفية .
ولا يخفى أن ما ينشأ عن هذا الافتئات من المفاسد يقضي بتحريمه ؛ لأنه يؤدي إلى التباغض والتشاجر ، وتفريق كلمة المسلمين ، والتشيع والتحزب في العبادة ، ومضادة حكمة مشروعية الجماعة من الاتحاد والتآلف والتعارف والتعاون على البر والتقوى .
فإن في تقسيمها تناكر النفوس ، وتبديل الأنس وحشة ، إلى مفاسد أخرى تنتهي إلى قريب الأربعين مفسدة ، وقد جمعت في حظر ذلك رسالة سميتها (إقامة الحجة على المصلي جماعة قبل الإمام الراتب من الكتاب والسنة وأقوال سائر أئمة المذاهب) ، فليحذر من هذه البدعة الشنيعة ". انتهى من كتابه " إصلاح المساجد عن البدع والعوائد " صـ 78-79.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أما ما دام الوقت باقياً ، فإنهم لا يصلون حتى يحضر الإمام ، لكن ينبغي للإمام أن يحدد وقتاً معيناً للناس فيقول مثلاً إذا تأخرت عن هذا الوقت فصلوا ، ليكون في هذه الحال أيسر لهم وأيسر له هو أيضاً ، ولا يوقع الناس في حرج أو ضيق". انتهى من "فتاوى نور على الدرب " .
والله أعلم .
تعليق