الحمد لله.
أولاً:
منهج أهل السنَّة والجماعة في فهم النصوص الشرعية أنهم يجمعونها في سياق واحد ، فما كان منها مطلَقا له ما يقيِّده أخذوا بالمقيِّد ، وما كان فيها من عموم له ما يخصصه قدَّموا التخصيص على العموم ، وكذا يقدمون الناسخ على المنسوخ ، ويأخذون بالصحيح من الأحاديث دون الضعيف ، والأهم في هذا الباب : أنهم يردون المتشابه من النصوص إلى المحكم منها ، ولم تقع الفرق الضالة - في مجملها – بما وقعت فيه من مخالفة للحق والصواب في الاعتقاد إلا لأنها نظرت إلى الأدلة بعين واحدة فأخذت ببعض النصوص وأعمت بصرها عن الأخرى ، فنتج لنا الخوارج وقابلهم المرجئة ، ونتج القدرية وقابلهم الجبرية ، وهكذا .
ثانياً:
المسألة التي ذكرتها - أخي الفاضل – هي من المسائل الجليلة وهي واضحة المعالم في
منهج أهل السنَّة والجماعة في فهم نصوص الوحي ، وعماد ذلك : أنه لا يكفر عند أهل
السنَّة كفراً مخرجاً من الإسلام ويستحق الخلود في جهنَّم إلا من جاء بما ينقض
إسلامه باعتقاد أو قول أو فعل ، وليس من ذلك فعله لمعاصٍ وذنوب يأثم بفعلها ، أو
يترتب عليه بفعلها حد أو كفارة ، ولا ينقض بفعلها إسلامه وتوحيده ، إلا أن يستحلَّ
فعلها فيكفر بذلك حتى لو يفعلها .
وبالتأمل في النصوص المحكمة تجد أن قتل المسلم لنفسه لا يُخرجه عن كونه آثماً بفعله
، ويستحق الوعيد بالنار ، وفعله هذا ليس من نواقض الإسلام عند أحدٍ من علماء
الإسلام من أهل السنَّة ولذا فلن يخلد في النار لمجرد فعله هذا كخلود فرعون وأبي
لهب ، ومما يدل على ذلك أمور ، منها :
1. النصوص المحكمة في أن المسلم إذا لقي الله تعالى بكل ذنب خلا الشرك الأكبر فإن
ذنوبه قابلة للعفو عنها ومحو أثر بفضل الله تعالى ورحمته ، مهما بلغت هذه الذنوب
كثرة وعظمة ، وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) النساء/ 48 ، ولا شك أن
قتل الإنسان لنفسه داخل فيما يمكن أن يغفره الله تعالى ، وليس هو من الشرك عند أحدٍ
من أئمة الإسلام .
قال الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله - : " وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب
كبيرة : ففي مشيئة الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه ، ما لم تكن كبيرته
شركاً بالله " . انتهى من " التفسير " ( 5 / 126 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 6 / 291 ، 292 ) : " لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء
المذاهب الأربعة ؛ لأن الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام ، وصاحب الكبيرة -
غير الشرك - لا يخرج عن الإسلام عند أهل السنة والجماعة ، وقد صحت الروايات أن
العصاة من أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون " . انتهى
2. الواقع العملي لقاتل نفسه في الشرع المطهَّر : أنه يغسَّل ويصلَّى عليه ، ويُدفن
في مقابر المسلمين ، ويورَّث ، ولو كان بفعله ذاك كافراً فإنه لا تجري عليه أحكام
الإسلام السابقة .
وفي " الموسوعة الفقهية ـ أيضا ـ " ( 6 / 292 ) :
صرح الفقهاء في أكثر من موضع بأن المنتحر لا يخرج عن الإسلام ، ولهذا قالوا بغسله
والصلاة عليه كما سيأتي ، والكافر لا يصلى عليه إجماعاً ، ذكر في " الفتاوى الخانية
" : المسلم إذا قتل نفسه في قول أبي حنيفة ومحمد : يغسل ويصلَّى عليه .
وهذا صريح في أن قاتل نفسه لا يخرج عن الإسلام ، كما وصفه الزيلعي وابن عابدين بأنه
فاسق كسائر فساق المسلمين ، كذلك نصوص الشافعية تدل على عدم كفر المنتحر .
انتهى .
ولا يُشكِل على هذا ترك
النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه ؛ لأن هذا الترك ليس لأنه كافر خارج
من ملة الإسلام بل هو لبيان تغليظ فعله ، وليعتبر الأحياء بهذا ، ومثله ما كان
يفعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة – في أول الأمر - على المدين للأسباب نفسها
، ولذا فإنه يشرع لخاصة الناس ترك الصلاة على قاتل نفسه – المنتحر – كما تركها
النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز ترك الصلاة عليه بالكلية ، بل يُصلَّى عليه ،
ويُدعى له بالرحمة .
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ الله عنْه قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ
عَلَيْهِ .
رواه مسلم ( 978 ) ، وراه الترمذي ( 1068 ) ، وقال – بعده - : " واختلف أهل العلم
في هذا ، فقال بعضهم : يصلَّى على كل مَن صلَّى إلى القبلة ، وعلى قاتل النفس . وهو
قول الثوري و إسحق ، وقال أحمد : لا يصلِّي الإمام على قاتل النفس ويصلِّي عليه غير
الإمام " .
انتهى
قال أبو حفص بن شاهين – رحمه الله - : " وهذه الأحاديث التي ذُكر فيها امتناع النبي
صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هؤلاء ليس أنه لا تجوز الصلاة عليهم ، وإنما هو
تغليظ من النبي صلى الله عليه وسلم ليُري الأحياء عِظَم الجنايات، والدليل على ما
قلناه : قول النبي صلى الله عليه وسلم ( صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم ) فلو لم يجز
الصلاة عليه لما أمرهم بالصلاة عليه ، ... وقال أحمد بن حنبل : لا يصلي الإمامُ على
قاتل نفسه ولا على غالٍّ ، ويصلِّي الناس عليه ، وكذا قال مالك بن أنس : المقتول في
القوَد يصلِّي عليه أهله ، غير أن الإمام لا يصلِّي عليه " . انتهى من " ناسخ
الحديث ومنسوخه " ( ص 315 ) .
وقال النووي – رحمه الله - : " المَشاقص : سهام عِراض ، واحدها مِشقَص بكسر الميم
وفتح القاف ، وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلَّى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا
مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي ، وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة
والشافعي وجماهير العلماء : يصلَّى عليه ، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى
الله عليه و سلم لم يصلِّ عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله وصلَّت عليه الصحابة
" . انتهى من " شرح مسلم " ( 7 / 47 ) .
ونرجو التنبه للقول الآخر الذي فيه المنع من الصلاة على قاتل نفسه – وهو قول عمر بن
عبد العزيز والأوزاعي – فإن الأمر عندهم ليس لكونه كافراً ، بل الأمر كما نقله
النووي عنهم أنه " لعصيانه " ، ولا نعلم أحداً من أهل السنَّة يقول بأنه المنتحر قد
خرج بفعله من ملَّة الإسلام .
وفي صحيح مسلم (116) عَنْ جَابِرٍ : ... فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ
فَمَرِضَ ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ
فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ
، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ !! فَقَالَ لَهُ :
مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا
يَدَيْكَ ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ . فَقَصَّهَا
الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ
فَاغْفِرْ ) .
وقد ترجم عليه الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم : ( باب الدليل على أن
قاتل نفسه لا يكفر ) ، ثم قال في شرحه :
" فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة : أن من قتل نفسه ، أو ارتكب معصية غيرها ، ومات
من غير توبة : فليس بكافر ، ولا يقطع له بالنار ؛ بل هو في حكم المشيئة . وقد تقدم
بيان
القاعدة وتقريرها ، وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل
النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار .
وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي ، فان هذا عوقب في يديه . ففيه رد على
المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر . والله أعلم " انتهى من "شرح مسلم" (11/167)
.
وينظر جوابي السؤالين (
45617 ) و (
70363 ) .
ثالثاً:
إذا تبيَّن لك صحة وقوة ما سبق في منهج أهل السنَّة والجماعة واعتقادهم هان عليك
الأمر بعده ، وسهل عليك الخروج من الإشكالات التي أوردتها ، فالمحكم من النصوص
والقطعي من الأحكام : أن المنتحر ليس يخرج من الإسلام بمجرد فعله ، وعليه : فإن
الخلود الذي ورد في حديث أبي هريرة ليس هو الخلود الذي للمشركين والمنافقين والكفار
، وأن تحريم الجنة الذي ورد في حديث جندب ليس هو كتحريمها على أبي لهب وأبي جهل ،
وأن لكل واحدة من اللفظين من التأويل ما يناسب مقام سياقها وفيمن وردت فيه ، وهذا
هو منهج أهل السنَّة المحكم في فهم النصوص ، كما سبق في أول الجواب ، وبيان ذلك :
1. أن يقال إن " الخلود " خلودان : خلود مؤبَّد توعَّد الله تعالى به أهل الكفر
والشرك والنفاق ، وخلود مقيد بأمد ينقضي ؛ توعَّد الله تعالى به أهل الكبائر من
المسلمين .
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي – حفظه الله - : " معنى " الخلود " عند أهل السنة
والجماعة في قوله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) المكث الطويل ، فالخلود خلودان : خلود مؤبد لا نهاية
له ، وهذا خلود الكفرة ، والثاني : خلود مؤمَّد له أمد ونهاية ، وهذا خلود عصاة
الموحدين ، وقد يطول مكث بعض العصاة لشدة وعظم جريمته كالقاتل وغيره ، قد يطول ،
لكنه له نهاية ما دام على التوحيد والإيمان : فلا يخلد في النار " . انتهى من "
أجوبة مفيدة عن أسئلة عديدة " ( ص 18 ) – ترقيم الشاملة - .
وانظر جواب السؤال رقم (
31174 ) .
2. وأما قوله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تعالى في حق قاتل نفسه ( حَرَّمْتُ عليه
الجَنَّة ) فهو من الباب نفسه ، فالتحريم تحريمان : تحريم مؤبَّد وهو تحريم الجنة
على الكفار والمشركين والمنفقين فلا يدخلونها البتة ، وتحريم مؤقت ، وهو تحريمها
على العصاة من المؤمنين مع أول الداخلين ، فهو تحريم لفترة من الوقت ثم يدخلونها
وتكون مستقرّاً لهم ، وقيل : إن المحرَّم هو جنَّة أرفع وأعلى من التي دخلها ، وقيل
إن التحريم هو تحريم مؤبَّد لكنه ليس لمجرد قتله نفسه بل لاستحلاله لذلك الفعل .
والحاصل من ذلك كله أن مجرد المعصية بقتل الإنسان نفسه لا تخرجه من ملة الإسلام ،
ولا توجب له الخلود الأبدي في النار ، كخلود الكفار والمنافقين والمشركين .
وكل ما قلناه في معنى الحديث
ليتوافق مع المحكم من النصوص قاله أهل السنَّة خلافاً للخوارج الذين يرون أن قاتل
نفسه مختوم له بكبيرة تخلِّده في النار .
قال ابن خزيمة – رحمه الله - : " كلُّ وعيد في الكتاب والسنَّة لأهل التوحيد :
فإنما هو على شريطة ، أي : إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل فلا يعذب
على ارتكاب تلك الخطيئة ؛ إذ الله عز وجل قد خبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر
ما دون الشرك من الذنوب في قوله ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) " . انتهى من " كتاب التوحيد " ( 2 /
869 ) .
وقال ابن حبَّان – رحمه الله - : " هذه الأخبار كلها معناها : لا يدخل الجنَّة ،
يريد : جنَّة دون جنَّة ، القصد منه : الجنة التي هي أعلى وأرفع ، يريد : مَن فعل
هذه الخصال أو ارتكب شيئاً منها : حرَّم الله عليه الجنَّة أو لا يدخل الجنة التي
هي أرفع ، التي يدخلها مَن لم يرتكب تلك الخصال ؛ لأن الدرجات في الجنان ينالها
المرء بالطاعات وحطّه عنها يكون بالمعاصي التي ارتكبها " . انتهى من " صحيح ابن
حبان " ( 11 / 240 ) .
وقال ابن دقيق العيد – رحمه الله - : " قوله ( حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةً )
فيتعلق به مَن يرى بوعيد الأبد ، وهو مؤول عند غيرهم على تحريم الجنة بحالة مخصوصة
، كالتخصيص بزمن ، كما يقال : إنه لا يدخلها مع السابقين ، أو يحملونه على فِعل ذلك
مستحلاًّ فيكفر به ويكون مخلداً بكفره لا بقتله نفسه " . انتهى من " إحكام الأحكام
شرح عمدة الأحكام " ( ص 437 ) .
والله أعلم
تعليق