الحمد لله.
من القواعد المقررة أن كل عبادة مطلقة في الشرع ، كالدعاء والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز إضافة القيود المخصصة لها من حيث الزمان أو المكان أو العدد أو الهيئة والصفة إلا ما وقع اتفاقا ، وكل تخصيص مقصود ومعتاد يجتمع عليه الناس لذاته فإنه يخرج بها عن السنة إلى البدعة ، وعن القصد إلى المجاوزة ، وعن الهداية إلى عدم المشروعية .
ومثل هذه القواعد سياج يحمي الشريعة من أن يدخل فيها ما ليس منها ، وقد أمرنا الله عز وجل بإقامة الدين فلا ننتقص منه شيئا ، وكذلك أمرنا في المقابل بحفظه من أن يدخل فيه ما ليس منه ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) رواه مسلم (1718).
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات ، وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به " انتهى من " شرح مسلم " (12/16) .
ويقول الإمام أبوشامة المقدسي رحمه الله :
" لا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع ، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة ، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها ، كصوم يوم عرفة ، وعاشوراء ، والصلاة في جوف الليل ، والعمرة في رمضان ، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلا فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة ، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر .
فالحاصل : أن الملكف ليس له منصب التخصيص بل ذلك الى الشارع وهذه كانت صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى من " الباعث على إنكار البدع والحوادث " (ص/51).
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" البدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ... ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ، وما أشبه ذلك . ومنها التزام العبادات المعينة ، في أوقات معينة ، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة " .
انتهى من "الاعتصام" (1/37-39) .
وبعد البحث والتفتيش في كتب السنة والآثار ، وفي أدلة الكتاب والسنة ، لم نجد فيها ما يدل على أصل لهذه " الصلاة العظيمية "، ولم يتعبد بها أحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم وأئمة الهدى والدين ، وقد سئل التقي السبكي رحمه الله في " فتاويه " (2/549) عن بعض ما يقوم به أهل زمانه مما يسمونه " الفتوة " ، فأجاب بقوله : " هذه بدعة لا يشك فيها أحد ، ولا يرتاب في ذلك ، ويكفي أنها لم تعرف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في زمن أصحابه ، ولا عن أحد من علماء السلف " انتهى.
فكفى بذلك دليلا على ضرورة اجتناب هذه " الصلاة العظيمية " والاقتصار على الثابت في السنة والآثار مما علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه : ( أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) رواه البخاري (3369) ومسلم (407) .
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله :
" علم جميع المسلمين بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم الناس
كيف يذكرون الله ويحمدونه ويمجدونه ، وأن ذلك بوحي من الله له ، ولكن الصوفية انفردوا عن جميع المسلمين فزعموا أن الرسول يأتيهم بعد موته صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى ليعلمهم الطريقة الشاذلية !
يقول صالح محمد الجعفري - الذي كان إمامًا لمسجد الأزهر لمدة طويلة - في كتابه الذي سماه " مفاتيح كنوز السماوات والأرض المخزونة التي أعطاها صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة " (ص8،9) يقول : " قال سيدي أحمد رضي الله عنه : اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتماعًا صوريًا ومعه الخضر عليه السلام ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية ، فلقنني إياها بحضرته صلى الله عليه وسلم ... ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم للخضر عليه السلام : يا خضر ! لقنه ما كان جامعًا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار ، وأفضل ثوابًا وأكثر عددًا ، فقال أي شيء هو يا رسول الله ؟ فقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس ، عدد ما وسعه علم الله ، فقالها ، وقلتها بعدهما ، وكررها صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا ، ثم قال ، قل : اللهم إني أسألك بنور وجه الله العظيم...إلى آخرة الصلاة العظيمية . ثم قال له : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، غفار الذنوب ، ذو الجلال والإكرام... إلى آخر الاستغفار الكبير . فقلت بعدهما : وقد كسبت أنوارًا وقوة محمدية ورزقت عيونًا إلهية (توفي سنة 1979) ! ! ثم قال صلى الله عليه وسلم : يا أحمد ! أعطيتك مفاتيح السماوات والأرض ، وهي الذكر المخصوص ، والصلاة العظيمة ، والاستغفار الكبير ، المرة الواحدة منها بقدر الدنيا والآخرة وما فيها أضعافًا مضاعفة "! ! واستطرد قائلًا : قال سيدي أحمد رضي الله عنه وقدس سره : ثم لقنها لي صلى الله عليه وسلم من غير وساطة ، فصرت ألقن المريدين كما لقنني به صلى الله عليه وسلم.
فهذه الحكايات التي كان يرويها صالح الجعفري بالسند المتصل حسب زعمه إلى قائلة أحمد الإدريسي فيها من الدعاوي والضلالات شيء كثير جدًا " .
انتهى من " الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة " (ص/284-285) .
وهكذا يتبين أصل هذه " الصلاة العظيمية "، وأنها من رؤى المنام أو اليقظة التي يلبس بها الشيطان على بعض مشايخ الصوفية ، وتأمل كيف نسبون لها الفضل الخاص ، والأجر العظيم عند الله ، وقد اتفق الفقهاء والعلماء على أن رؤى المنام لا يبنى عليها أحكام شرعية ، ولا يستدل بها على العبادات والأعمال الصالحات .
هذا فضلا عما ورد في ثنايا هذه الصلاة المبتدعة من إيهام محدودية عظمة الله تعالى وعلمه ، وذلك في قوله : " بقدر عظمة ذات الله العظيم ، فى كل لمحة ونفس ، عدد ما فى علم الله العظيم ، صلاة دائمة بدوام الله العظيم ". وقد سبق في موقعنا بيان وجه الخطأ في مثل هذه الصيغ ، وفي مثل قول بعضهم " عدد كمال الله "، وذلك في الفتوى رقم: (88109) .
يقول الإمام الذهبي رحمه الله :
" كل من لم يزم نفسه في تعبده وأوراده بالسنة النبوية يندم ويترهب ويسوء مزاجه ، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين ، الحريص على نفعهم " .
ينظر " سير أعلام النبلاء " (3/85) .
والله أعلم .
تعليق