الحمد لله.
أولا :
نعم ، صلاتك صحيحة ، ولم نجد – بعد البحث – أحدا من العلماء تكلم عن هذه المسالة بعينها ، غير أنهم ذكروا بعض المسائل التي تشبهها .
وحاصل هذه المسألة : أن
المصلي ابتدأ صلاته خلف إمام ، وأتمها خلف إمام آخر ، وهذا جائز لا حرج فيه ، إن
شاء الله .
وقد دلت السنة على جوازه إذا كان لعذر ، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعن
، وأقره عليه الصحابة رضي الله عنهم .
أما دلالة السنة ، فحديث سهل بن سعد رضي الله عنه : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ
بَيْنَهُمْ ، فَحَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَجَاءَ المُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ،
فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ،
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي
الصَّلاَةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ ، وَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ
التَّصْفِيقَ التَفَتَ ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنِ
امْكُثْ مَكَانَكَ)، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ ،
فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي
الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى
، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: ( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ
أَمَرْتُكَ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ
يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا لِي رَأَيْتُكُمْ
أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ ، فَلْيُسَبِّحْ ،
فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ)
.
فهنا ابتدأ الصحابة صلاتهم بإمامة أبي بكر رضي الله عنه ، وأتموها بإمامة الرسول
صلى الله عليه وسلم .
قال ابن رجب رحمه الله : " واستُدل بهذا الحَدِيْث عَلَى أن الإمام إذا سبقه الحدث
: جاز لَهُ أن يستخلف بعض المأمومين؛ لأنه إذا جازت الصلاة بإمامين مَعَ إمكان
إتمامها بالإمام الأول ، فمع عدم إمكان ذَلِكَ لبطلان صلاة الأول : أولى " انتهى من
" فتح الباري " (6/127) .
وأما فعل عمر فإنه رضي الله
عنه ؛ فإنه لما طعن في صلاة الفجر قال : " قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ ...
وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ ... فَصَلَّى
بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً " رواه البخاري (3700) .
فهنا صلى المأمومون صلاتهم خلف إمامين ، ابتدؤوا الصلاة خلف عمر ، وأتموها خلف عبد
الرحمن بن عوف رضي الله عنهم .
ومثل ذلك أيضا : ما نص بعض
العلماء على جوازه ، وهو أن يدخل مسبوقان مع صلاة الإمام ، ثم إذا سلم الإمام أتما
ما بقي من صلاتهما جماعة معاً ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على جواز ذلك ،
ودليله : أنه انتقال من إمام إلى إمام ، وقد دلت السنة على جوازه .
قال البهوتي رحمه الله في "الروض المربع" (1/580) : "وإن سُبق اثنان فأكثر ببعض
الصلاة ، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما : صح" انتهى .
علل ابن قاسم هذا الحكم بقوله : "لأنه انتقال من جماعة إلى جماعة أخرى لعذر، فجاز ؛
كالاستخلاف" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (3/316) تعليقا على هذه المسألة
:
"فالمذهب: أن هذا جائز؛ وأنه لا بأس : أن يتَّفق اثنان دخلا وهما مسبوقان ببعض
الصَّلاة ، على أن يكون أحدُهما إماماً للآخر، وقالوا: إن الانتقال من إمام إلى
إمام آخر قد ثبتت به السُّنَّة ، كما في قضيَّةِ أبي بكر مع الرَّسول عليه الصَّلاة
والسَّلامُ.
وقال بعض أصحاب الإمام أحمد: إن هذا لا يجوز ...
والقول الأول أصحُّ، أي: أنه جائز ، ولكن لا ينبغي ؛ لأن ذلك لم يكن معروفاً عند
السَّلف ، وما لم يكن معروفاً عند السَّلف ، فإن الأفضل تركه ؛ لأننا نعلم أنهم
أسبق منَّا إلى الخير، ولو كان خيراً لسبقونا إليه " انتهى .
ثانيا :
ذكر العلماء مسألة أخرى هي أبعد مما وردت في السؤال ، وهي : إذا افتتح صلاته منفردا
، ثم جاءت جماعة فدخل معهم ، هل تصح صلاته ؟
ذكر النووي رحمه الله في ذلك قولين للإمام الشافعي ، وأن أبا بكر الفارسي (هو أحمد
بن الحسين بن سهل من فقهاء الشافعية توفي بعد سنة 339هـ ) اختار عدم الصحة ، قال
النووي : وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ثم قال : وأصحهما باتفاق الأصحاب : يصح ، وهو
نصه (يعني : الإمام الشافعي) في معظم كتبه الجديدة " انتهى . "المجموع" (4/104-107)
.
واستدل النووي رحمه الله على جواز ذلك بدليلين :
الدليل الأول : أنه يجوز أن يصلي بعض صلاته منفردا ثم يتمها مأموما ، كما يجوز أن
يصلي بعض صلاته منفردا ثم يتمها إماما ، وذلك إذا ابتدأ صلاته منفردا ثم جاء من
يصلي خلفه .
الدليل الثاني : حديث سهل بن سعد المتقدم ، علق عليه النووي قائلا : "فصار أبو بكر
مقتديا في أثناء صلاته" انتهى . يعني : ومثله المنفرد الذي دخل مع الجماعة فإنه قد
صار مقتديا أثناء صلاته ، وسيأتي هذا الدليل أيضا في كلام ابن قدامة رحمه الله ،
لكن بألفاظ مختلفة .
قال رحمه الله في "الكافي" :
"إذا أحرم منفرداً فحضرت جماعة فأَحّبَّ أن يصلي معهم فقال أحمد رضي الله عنه :
أعجب إليّ أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام ، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجزئه ، لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة ، والثانية : يجزئه ،
لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إماماً جاز أن يجعلها مأموماً" انتهى .
ويؤخذ من تعليل ابن قدامة للرواية الأولى بعدم الجواز "لأنه لم ينو الائتمام في
ابتداء الصلاة" يؤخذ منه جواز المسألة الواردة في السؤال ، لأنه نوى الائتمام في
ابتداء الصلاة ، غاية الأمر أنه انتقل من إمام إلى إمام آخر .
واختار الشيخ ابن عثيمين
رحمه الله في تعليقه على كتاب "الكافي" جواز انتقال المنفرد إلى الجماعة . انظر :
"تعليق الشيخ ابن عثيمين على الكافي" (2/43) بترقيم الشاملة .
فإذا جاز لمن افتتح صلاته منفردا أن ينتقل إلى الجماعة ويصير مأموما ، فيجوز من باب
أولى لمن ابتدأ صلاته مع إمام أن ينتقل إلى إمام آخر ، لأن نية الجماعة كانت موجودة
من أول الصلاة .
قال النووي رحمه الله :
"قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ : إذَا افْتَتَحَ جَمَاعَةً ، ثُمَّ نَقَلَهَا إلَى
جَمَاعَةٍ أُخْرَى ، بِأَنْ أَحْرَمَ خَلْفَ جنب أو محدث لم يعلم حاله ، ثُمَّ
عَلِمَ الْإِمَامُ ، فَخَرَجَ فَتَطَهَّرَ ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ
، فَأَلْحَقَ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ ثَانِيًا ، أَوْ جَاءَ آخَرُ
فَأَلْحَق الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِحَدَثِ الْأَوَّلِ
، قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَتَكُونُ صَلَاةُ
الْمَأْمُومِ انْعَقَدَتْ جَمَاعَةً ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جَمَاعَةً ،
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا [ يعني : ففيه
الخلاف السابق ] . وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ ،
وَجَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ : فَإِنَّ الْمَأْمُومِينَ نَقَلُوا صَلَاتَهُمْ مِنْ
جَمَاعَةٍ إلَى جَمَاعَةٍ .
هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
التَّعْلِيقِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ نَحْوَهُ " .
انتهى من "المجموع" (4/104-107) .
وقال ابن قدامة في "المغني" (2/510-511) :
"وَمَنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَافَ ، فَقَدْ أَجَازَ نَقْلَ الْجَمَاعَةِ إلَى
جَمَاعَةٍ أُخْرَى ، لِلْعُذْرِ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ ... ثم ذكر حديث سهل بن سعد
المتقدم في قصة أبي بكر رضي الله عنهما ، ثم قال : "وَهَذَا يُقَوِّي جَوَازَ
الِاسْتِخْلَافِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ جَمَاعَةٍ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى حَالَ
الْعُذْرِ" انتهى .
تعليق