الحمد لله.
أولا :
هنيئا لك أن وفقك الله للتوبة ، نسأل الله أن يمن علينا وعليك بقبولها ، وليس هناك نعمة أكبر من نعمة الإسلام والهداية له ، وما أكثر المحرومين من هذه النعمة العظيمة ، فنسأل الله لنا ولكم الثبات .
ثانيا :
ما ذكره السائل من أحزان وهموم ركبته من تذكره لمعاصيه السالفة ، قد يكون مورده من الشيطان يريد أن يكدر عليه حياته ، حتى يضجر فيرجع إلى سالف عهده .
وليعلم السائل أن الحزن أمر ممقوت ، إذا أضعف العبد عن القيام بأمر الله ، والمسارعة إلى طاعته ، وضيق صدره في عبادته ، وأورثه غما ملازما ، يقلقه ، ولا يهنيه بطاعته ، ولا بأمر نفسه .
فالواجب على العبد الناصح لنفسه : أن يدع ذلك كله ، وألا يتذكر ماضيه وذنوبه ، إلا بتوبة واستغفار ، وجد في الطاعة ، واستدراك ما فات ، وعمل الطاعات بدلا مما أسلف من الخطيئات ؛ قال الله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ *وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) هود/112-115 .
قال ابن القيم رحمه الله : " النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه ؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم ، ويضر الإرادة ، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن ، قال تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) المجادلة/10 .
فالحزن مرض من أمراض القلب ، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره ، والثواب عليه : ثواب المصائب التي يُبتلى العبد بها بغير اختياره ، كالمرض والألم ونحوهما ...
ولكن يُحمَد في الحزن : سببه ، ومصدره ، ولازمه ؛ لا ذاته ، فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته ، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيه ، وضياع أيامه وأوقاته.
وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه ، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم ، فحَزِنَ عليه ، ولو كان قلبه ميتا لم يحس بذلك ولم يَحْزَن ولم يتألم ، فما لجرح بميت إيلام ، وكلما كان قلبه أشد حياة ، كان شعوره بهذا الألم أقوى .
ولكنّ الحزنَ لا يجدى عليه ، فإنه يضعفه كما تقدم .
بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر ، ويبذل جهده .
وهذا نظير من انقطع عن رفقته في السفر، فجلس في الطريق حزيناً كئيباً ، يشهد انقطاعه ، وسبق رفقته !!
فقعوده لا يجدي شيئا ؛ بل إذا عرف الطريق ، فالأولى له أن ينهض ، ويجد في السير ، ويحدث نفسه باللحاق بالقوم .
وكلما فتر وحزن : حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع.
فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين " انتهى من "طريق الهجرتين" (2/607-608) ط عالم الفوائد .
فهلم يا عبد الله ، دع عنك استزلال الشيطان لك ، وصرفه لك عن الطاعة ، وعلو الهمة في الخيرات .
ثالثا :
ما ذكره السائل من تأخير الزواج ، إلى حين اتساع الفجوة بينه وبين ماضيه ، يؤكد سعي الشيطان في استدراجه بحجج واهية ، تجعله عرضة لفتنة الشهوات ، كما سبق وأن أوقعه في الوساوس والشكوك ونحوها من فتن الشبهات ، فإن الشيطان لا يهاجم خصمه من باب واحد ، يل يعدد المداخل عليه .
وما هذه الأعذار في تأخير الزواج إلا من خطوات الشيطان التي من اتبعها خسر خسرانا مبينا ، وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) سورة النور / 21 .
وقد جاءت السنة آمرة بالتعجيل والمبادرة إلى الزواج للقادر عليه ؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ , فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) رواه البخاري ( 5065) ، ومسلم ( 1400) لا سيما في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن والمغريات .
ولن يحول التاريخ المظلم بينك وبين الزواج ، بل إن الزواج من الحسنات والأنوار التي تكشف ظلمات ذلك التاريخ إن شاء الله ، وتعريض المسلم نفسه للفتن بتأخير الزواج ، خطوة في طريق الرجوع إلى التاريخ المظلم مرة أخرى .
فأنت بزواجك تحفظ نفسك ، وتغض بصرك ، وتسد عليك بابا من أعظم أبواب الشيطان التي يغوي بها الناس ، وقد لا تكون تشعر بخطره الآن ، ولكن الفتنة تأتي من حيث لا يعلم الإنسان ، فلا بد من الحرص على غلق الأبواب قبل أن تفتح وهو لا يشعر .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَا تَرَكتُ بَعدِي فِي النَّاسِ فِتنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ) رواه البخاري (5096) ، ومسلم (2741) .
وكم من فاجر بل وكافر تاب ورجع إلى ربه ، وتزوج وبنى أسرة مسلمة وحسن حاله ، ولم تقطعه الأحزان والشكوك في منتصف الطريق .
جاء في " المغني " لابن قدامة (7/4) : " قال ابن مسعود : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام ، وأعلم أني أموت في آخرها يوماً ، ولي طَوْل النكاح فيهن : لتزوجت ، مخافة الفتنة ، وقال ابن عباس لسعيد بن جبير : تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء ، وقال إبراهيم بن ميسرة : قال لي طاوس : لتنكحن ، أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد : ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور ، قال أحمد في رواية المروذي : ليست العُزْبة من أمر الإسلام في شيء ، وقال : من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام " انتهى .
وقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن رَزَقَهُ اللَّهُ امرَأَةً صَالِحَةً فَقَد أَعَانَهُ عَلَى شَطرِ دِينِهِ ، فَليَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطرِ الثَّانِي ) رواه الحاكم في "المستدرك" (2/175) ، والطبراني في "الأوسط" (1/294) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/382) ، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (2/192) .
فكيف لو علمت أن لك في ولدك الصالح صدقة جارية ، حين تربيه على الخلق والإيمان ، وأنك تؤجر على زواجك إذا احتسبته عند الله تعالى ، انظر جواب السؤال رقم : (8891) .
وعلى المسلم أن يكون جلدا ثابتا ، لا يستسلم لكل وسواس يعرض له ، بل عليه أن يقاوم ويتلهى عن ذلك ، بصرف فكره فيما لا يجدي عليه نفعا ، وأن يشتغل بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، ولا يترك نفسه ملعبة للشيطان يقلبها كيف يشاء ، وينظر لدفع الوساوس والتغلب عليها جواب السؤال رقم : (210592) .
والله أعلم .
تعليق