الحمد لله.
أولاً :
لا بأس أن يقول الإنسان " الشكر لله ولفلان " ، هكذا بحرف العطف " واو " ، ولا يشترط أن يعطف بينهما بحرف العطف " ثم " .
والآية الكريمة التي استدلَّ بها صاحبُك تدلُّ على هذا ؛ فقرنَ سبحانه وتعالى بين عبادته وطاعته والإحسان إلى الوالدَين بحرف العطف " واو " ، ولم يقُل : " ثُمَّ لوالدَيك ".
وأما استشكال جواز ذلك بما ثبتَ من النهي عن التشريك بين الله وأحدٍ من عباده
بحرف العطف " واو " ، كما في المشيئة ونحوها ، كقول " ما شاء الله وشئت " ، أو "
أنا بالله وبك " ، " هذا بفضل الله وبفضل فلان " ، ونحو ذلك ؛ فيُجاب عنه :
بأنَّ هذا النهيَ إنَّما هو في الأمور الكونيَّة التابعة لربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ
، كالمشيئة والإرادة والتقدير والنصرة والرِّزق ، ونحوها ممَّا يختصُّ به الله
سبحانه ، ممَّا هو من مقتضيات ربوبيَّته سبحانه في تدبير الكون ، وما كان منها من
المخلوق فهي أسباب مخلوقة تابعة للربوبيَّة المطلقة ، فتعطَف بحرف " ثم " .
أمَّا الأمور التي لا يختصُّ الله تعالى بها دون خلقه ، بل يقوم بها العبد حقيقةً ،
ويُنسَب إليه فعلُها ؛ فالأمر فيها سهل ، ولا يشترط فيها العطف بحرف " ثم " ، وقد
جاءت النصوص الشرعيَّة بمشروعيَّة الجمع والتشريك بينها وبين فِعْل الله بحرف العطف
" واو " .
كقول الله سبحانه وتعالى: ( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) التوبة/74 ، وكقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) التوبة/59 ،
وقوله : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ ) الأحزاب/37 .
والآية المسئول عنها في السؤال دليلٌ على هذا أيضًا ؛ وهي قوله تعالى : (
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )
لقمان/14 . وعلى ذلك : " فيكون التشريك في أصل المعنى ، لا في المرتبة " .
ينظر : " التمهيد شرح كتاب التوحيد " للشيخ صالح آل الشيخ .
ثانيًا :
ذكرَ بعضُ أهل العلم أنَّ الجمع بين الشُّكرَين بالواو في قولِه تعالى ( اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) ، منسوخٌ بأحاديث النهي عن التشريك في المشيئة ، كقوله صلى
الله عليه وسلم : ( لَا تَقُولُوا : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ ، وَلَكِنْ
قُولُوا : مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ ) رواه أبو داود (4980) ، وصححه
الألباني في " صحيح سنن أبي داود "، وغيره من أحاديث الباب ، فيكون العطف في الشكر
بـ " ثم " ، فيتقدَّم الشكر لله كالمشيئة . انظر : الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمكي بن أبي طالب (ص/ 379) .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : " قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ
تَعَالَى مَا قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ هَذَا الْمَحْظُورِ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ , ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ ) ، وَلَمْ يَقُلْ : " ثُمَّ لِوَالِدَيْكَ " ؟
فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ : أَنَّ هَذَا مِمَّا كَانَ
مُبَاحًا قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مِثْلِهِ فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، ثُمَّ نَهَى عَنْ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا قَدْ كَانَ مُبَاحًا مِمَّا قَدْ
تَلَوْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَنْسَخُ
الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يَنْسَخُ مَا
شَاءَ مِنْهُمَا بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (1/219) .
وادِّعاء النسخ فيه نظرٌ ؛ فمثله يفتقر إلى دليل ، ثم إنَّه لا يُصار إلى ادِّعاء النَّسْخ إلا بعد تعذُّر الجمع بين الأدلَّة ، وقد أمكنَ الجمع - كما تقدَّم - ، والحمد لله .
وذهب آخرون من أهل العِلْم أنَّ ما وردَت به النصوص من التشريك بين الله وأحد من
خلقه بحرف العطف " واو " ، هو خاصٌّ بكلام الله وحدَه ، ولا يُقاس عليه كلام
المخلوق الذي يجب عليه التأدُّب في مقام الربوبيَّة بكلام الخالق جلَّ وعلا ، وهذا
كما أنه يجوز للخالق سبحانه أن يحلف بما يشاء من خلقه ، ولا يجوز للمخلوق أن يحلف
إلا بالله عز وجل .
ينظر : " الفتاوى الفقهية الكبرى " لابن حجر الهيتمي (4/ 248) ، و" تيسير العزيز
الحميد " (ص/520) .
وينظر لمزيد من الفائدة : جواب سؤال رقم : (161522) .
وعلى هذا ؛ فلا بأس من قول " الشكر لله وفلان " ، وإن تأدَّب القائل وعطف بينهما
بحرف العطف " ثم " فهو أولَى ؛ خروجًا من الخلاف وزيادةً في الأدب مع الله تعالى .
والله أعلم .
تعليق