الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

في بيان وتوضيح معنى الإضلال في النصوص الشرعية

227588

تاريخ النشر : 11-04-2019

المشاهدات : 20786

السؤال

لدي شبهة وأريد التوضيح .

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً : فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ . وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ . فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، ثُمَّ قَرَأَ ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) الآيَةَ

أن أي شيء يصدر عن الله خير ، وأي شر مصدره الشيطان . في حين أنه يقول الله عز وجل : ( يهدى من يشاء ويضل من يشاء )، وإضلال العبد شر له .

فكيف أوفق بين الحديث الذي ينفي صدور الشر عن الله للعبد ، والآية الكريمة التي تثبت الإضلال ؟

ملخص الجواب

كلما وجدت كلمة ( الإضلال ) منسوبة لله سبحانه ، فاعلم أنها بمعنى أن الله يقدر ذلك كونا ويخلقه في الناس ، ويخلق أسباب الضلال من شهوات وشبهات ، وليست بمعنى أنه سبحانه يحث على الضلال أو يحبه ويرضاه . وكلما وجدت كلمة ( الإضلال ) منسوبة لغير الله سبحانه ، كالهوى والشيطان ، فاعلم أنها بمعنى التسبب ، والإغواء ، وتسويل الكفر للنفس ، وهذا لا يكون من الله . وفي الحديث الشريف : جاءت ( لمة الشيطان ) بالمعنى الثاني ، الذي هو التسبب والإغواء . وفي والآية الكريمة جاءت ( يضل من يشاء ) بالمعنى الأول ، الذي هو الخلق والتقدير . وبهذا يتبين أن لا تناقض بين النصوص الشرعية .

الجواب

الحمد لله.

يبدو لنا أن سبب إشكال السائل عدم التفريق بين معنيين مهمين :

الأول :

إذا قصدت – أخانا السائل – بكلمة ( الإضلال ) في سؤالك : الإيعاد بالشر ، والوسوسة بالباطل ، والحض والحث والإزعاج على فعل السيئ ، وتسويل المعصية للنفس ، فهذا لا ينسب لله سبحانه ، ولا يجوز أن نقول إنه يصدر عن الله ، بدليل الآيات الكريمات التي تدل على أن الله لا يأمر إلا بالخير ، ولا يحب إلا الهداية ، ونعتقد أن هذا واضح لا يشك فيه أحد من المسلمين ، فالله سبحانه يدعو العباد إلى الخير ، ويطلب منهم الطاعة والصلاح .

أما الإضلال بمعنى الترغيب بالشر، فهذا من النفس ومن الشيطان ، ولا يكون من الله عز وجل بحال من الأحوال ، ولهذا قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) [يس: 62] يعني الشيطان .

فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بالفحشاء ، ولا يحض إلا على الخير ، يقول الله عز وجل : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) [الأعراف: 28، 29]، ويقول سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل:90]

وأما الشيطان فهو الذي يعد بالشر ، ويأمر بالسوء ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [النور: 21]، وقال عز وجل : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة: 268] .

وهذا المقام الأول : مقام "اللمة" و"الإيعاد" بالخير ، و"الإيعاد" بالشر : هو من الأسباب التي يقدرها الله في كونه ، كما أن دعوة الصالحين للخير : هي من أسباب وقوع الخير وعمل الناس به ، ودعوة شياطين الإنسان للشر ، هي أيضا من أسباب وقوع الشر ، وعمل الناس به .

وقد أورد المفسرون هذا الحديث الشريف ( لمة الشيطان ولمة الملك ) ، عند تفسير قول الله عز وجل : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة/268، كما جاءت الآية الكريمة في خاتمة الحديث نفسه ، ينظر : الطبري في " جامع البيان " (5/572)، وابن كثير في " تفسير القرآن العظيم " (1/699)

وقد أكد العلماء في شرح الحديث ، على أن ( لمة الشيطان ) لا تتجاوز الحث والإزعاج والوسواس ، فإذا اختار العبد فعل الشر فاختياره وفعله مخلوق لله سبحانه ، ولكنه عز وجل يكرهه ولا يرضاه منه .

يقول الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله :

" أضاف الإضلال والإخراج من النور إلى الطاغوت ؛ لأن سبب ذلك من الطاغوت ، وهو التزيين والوسوسة والدعاء إليه ، فالإضافة إليه لأجل السبب .

وحقيقة الهداية والإضلال لله تعالى : ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) [النحل: 93] والشيطان يزين ويسول " انتهى من " التفسير البسيط " (4/ 371)

الثاني :

أما إذا قصدت بكلمة ( الإضلال ) خلق فعل الضلال ، فهذا لا حرج في نسبته إلى الله سبحانه ، فالله عز وجل خلق أفعال العباد المتضمنة لجميع الحركات والسكنات ، سواء أدت إلى فعل الخير أم إلى فعل الشر ، وهو عز وجل خالق كل شيء كما قال : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) [غافر: 62]

والله سبحانه يخلق ما يحب ويرضى ، ويخلق ما لا يحب ولا ويرضى ، من الشر أو الكفر أو الظلم ، وإذا خلقه وقدره في أفعال العباد ؛ فإنه سبحانه في الوقت نفسه ينهى عنه ويبغضه ويحذر منه ، ويكرِّه النفوس إليه بآياته وفطرته .

وحينئذ ؛ فلا تلازم بين ما يقدره الله ويخلقه ، وبين محبته ورضوانه عن ذلك المخلوق . ويعبر عن ذلك العلماء بقولهم : إن الإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الإرادة الشرعية .

وهذا يعني أن " الشر " لا ينسب إلى الله عز وجل على أنه أمر به أو أحبه أو رضيه ، فالله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر .

وينظر  للفائدة جواب السؤال رقم (130685) .

فالإضلال بمعنى الإرادة الكونية القدرية : أن يوجَدَ الضلال في الأرض ، كما أن الهدى يوجَد فيها أيضا ؛ وأن يصيب الضلال بعض الناس بسبب فعل أنفسهم ، وما كسبته أيديهم .

فحين يقول عز وجل إنه ( يضل من يشاء ) لم يقل أحد من المفسرين إن المعنى أنه سبحانه يحب الضلال لأحد ، أو يرضاه ويطلبه منهم شرعا ، وإنما المعنى أنه يخلق فيهم الضلالة بحكم إرادتهم الحرة لأن يضلوا ، بعد أن استكبروا عن طريق الحق والخير ، وأصروا - وقد سمعوا جميع المواعظ والزواجر - أن يسلكوا طريق الغواية ، حينها يخلق سبحانه فيهم فعل ( الضلال )، خلقا كونيا محضا ، وتقديرا قضائيا محضا ، ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) [الصف: 5]، وليس ترغيبا منه لهم في الشر ، ولا حضا وحثا عليه ، ولا إجبارا وإكراها منه سبحانه لهم أن يضلوا ، فالإرادة والاختيار الحران هما مناط التكليف ، ولا يمكن أن يسلبهما الله عز وجل العبد ثم يحاسبه على ما صدر عنه .

هكذا نعتقد أن الإشكال يتضح بإذن الله .

وقد سبق تأكيد مثل هذه التقريرات والشروح المهمة في أجوبة الأسئلة رقم : (6053) ، ورقم (124504) ، ورقم (220690)

يقول الإمام ابن حزم رحمه الله :

" لا ننكر إضلال المجرمين ، وإضلال إبليس لهم ، ولكنه إضلال آخر ، ليس إضلال الله تعالى لهم ... وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ... وكل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى ، وتزيينهم لهم ، ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض ، فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف ، وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس .

وهو من الله تعالى خلقٌ لكل ذلك في القلوب ، وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس " انتهى من " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (3/ 28-29) .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" المحققون يقولون : الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان :

إرادة خلقية قدرية كونية .

وإرادة دينية [أمرية] شرعية .

فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا .

والكونية هي [المشيئة] الشاملة لجميع الحوادث ، كقول المسلمين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .

وهذا كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) [سورة الأنعام: 125] وقوله عن نوح : ( وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [سورة هود: 34] .

فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء ، وهذه هي المشيئة ، فإن ما شاء الله كان " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (3/ 16)

ويقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله :

" أما المؤمنون حقا فيؤمنون بالقدر خيره وشره ، وأن الله خالق ذلك كله ، وينقادون للشرع، أمره ونهيه ، ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا ، والهداية والإضلال بيد الله ؛ يهدي من يشاء بفضله ، ويضل من يشاء بعدله ، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) [النجم: 30] وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة " انتهى من " أعلام السنة المنشورة " (ص91)

والخلاصة :

أنه كلما وجدت كلمة ( الإضلال ) منسوبة لله سبحانه ، فاعلم أنها بمعنى أن الله يقدر ذلك كونا ويخلقه في الناس ، ويخلق أسباب الضلال من شهوات وشبهات ، وليست بمعنى أنه سبحانه يحث على الضلال أو يحبه ويرضاه .

وكلما وجدت كلمة ( الإضلال ) منسوبة لغير الله سبحانه ، كالهوى والشيطان ، فاعلم أنها بمعنى التسبب ، والإغواء ، وتسويل الكفر للنفس ، وهذا لا يكون من الله .

وفي الحديث الشريف : جاءت ( لمة الشيطان ) بالمعنى الثاني ، الذي هو التسبب والإغواء .

وفي والآية الكريمة جاءت ( يضل من يشاء ) بالمعنى الأول ، الذي هو الخلق والتقدير .

وبهذا يتبين أن لا تناقض بين النصوص الشرعية .

ونختتم الجواب بهذا الكلام لابن القيم رحمه الله يزيد المسألة وضوحا .

قال رحمه الله في "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص: 30) :

"وقد قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) .

قال ابن عباس: علم ما يكون قبل أن يخلقه .

وقال أيضا : على علم قد سبق عنده .

وقال أيضا: يريد : الأمر الذي سبق له في أم الكتاب ....

وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين ...

وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره: قولين في الآية ، هذا أحدهما .

والثاني : قيل : على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر ....

وعلى الوجه الأول : فالمعنى أضله الله عالما به ، وبأقواله ، وما يناسبه ويليق به ، ولا يصلح له غيره ، قبل خلقه وبعده ، وأنه أهل للضلال ، وليس أهلا أن يهدى ، وأنه لو هُدي لكان قد وضع الهدى في غير محله ، وعند من لا يستحقه ، والرب تعالى حكيم ، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها .

فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قَدَّر عليه الضلال ، وذكر العلم ، إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور ووضع الشيء في مواضعه ، وإعطاء الخير من يستحقه ، ومنعه من لا يستحقه ، فإن هذا لا يحصل بدون العلم ، فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه .

وهو سبحانه كثيرا ما يذكر ذلك ، مع إخباره بأنه أضل الكافر ، كما قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ، (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) ، (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) ،  (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) ، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) .

وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم ، وهذا إضلال ثان بعد الإضلال الأول ، كما قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)، وقال تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، وقال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ، وقال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ؛ أي : إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم فلا تقدرون على الاستجابة بعد ذلك .....

وهذه عقوبة من رد الحق ، أو أعرض عنه فلم يقبله ؛ فإنه يصرف عنه ، ويحال بينه وبينه ، ويقلب قلبه عنه ؛ فهذا إضلال العقوبة ، وهو من عدل الرب في عبده .

وأما الإضلال السابق الذي ضل به عن قبوله أولا ، والاهتداء به : فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به ، وأن محله غير قابل له ، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه ، كما هو أعلم حيث يجعل رسالته ؛ فهو أعلم حيث يجعلها أصلا وميراثا ، وكما أنه ليس كل محل أهلا لتحمل الرسالة عنه ، وأدائها إلى الخلق ؛ فليس كل محل أهلا لقبولها والتصديق بها ، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) ؛ أي ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض ، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالى والضعفاء ؛ فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أنفة ، وأنف أن يسلم ، وقال هذا يمن الله عليه بالهدى والسعادة دوني ، قال الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) ، وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها ، ويشكرون الله عليها ، بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية ؛ فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم ، وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما مننت عليهم ، ولكن لِمِنَنِي ونعمي محالّ لا تليق إلا بها ، ولا تحسن إلا عندها .....

وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في الكفر والمعاصي ، هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره ؟ فإن قلتم باختياره ، فكل مختار : مرضيٌّ مُصطفى محبوبٌ ، فتكون مرضية محبوبة له ؟

وإن قلتم بغير اختياره : لم يكن بمشيئته واختياره ؟

وجوابه أن يقال ما تعنون بالاختيار : العام في اصطلاح المتكلمين ، وهو المشيئة والإرادة ؟

أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب [بمعنى : اختيار الشيء على غيره وتقديمه وتفضيله عليه] ؟

وإن أردتم بالاختيار الأول فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار ، لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها ، لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة ؛ بل يقال واقعة بمشيئته وقدرته.

 وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب : فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى ، وإن كانت واقعة بمشيئته .

فإن قيل : فهل تقولون : إنها واقعة بإرادته أم لا تطلقون ذلك ؟

قيل : لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات ، كقوله: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وقوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) وقوله: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ونظائر ذلك .

وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها ، كقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) وقوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) .

فهي مرادة بالمعنى الأول ، غير مرادة بالمعنى الثاني" انتهى باختصار .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب