الحمد لله.
أولا :
لا يحل لمن لم يعرف اللسان العربي الذي نزل القرآن به ، ولا يعرف السنة النبوية ، ولا مواضع إجماع العلماء ، لا يحل لمن هذا شأنه أن يتكلم في تفسير القرآن الكريم ، ولا أن يستدل به على الأحكام ، فإنه ، إن فعل ذلك : سوف يضل ضلالا مبينا ، وهذا السؤال مثال لذلك ، فإن هذا الشخص خالف القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وإجماع العلماء .
وبيان ذلك :
قال الله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) النساء/3.
وهذه الآية الكريمة دلت على
أن أكثر ما يتزوجه الرجل من النساء : أربع ، وهو ما فهمه العلماء منها ، وذلك من
عدة وجوه :
1- أن الآية لم تذكر أكثر من أربع ، فيدل ذلك على أنه لا يجوز للرجل أن يتجاوز هذا
العدد ، كما لو قيل : قسِّم هذه الدراهم بين هؤلاء الرجال درهمين درهمين ، وثلاثة
ثلاثة ، وأربعة أربعة ، لم يكن له أن يعطي أحدا أكثر من أربعة .
2- لو كانت الآية تدل على عدم الحصر بعدد معين ، لكان ذكر العدد في في الآية لغو لا
فائدة منه ، لأن العموم مستفاد من قوله : (ما طاب لكم من النساء) .
3- أن الآية سيقت في معرض الامتنان على الرجال بما أحل الله لهم ، فلو جاز للرجل أن
يتزوج أكثر من أربع ، لكان ذكره في الآية أولى ، لأنه كلما كثرت النعم والمباحات ،
كانت المنة أتم .
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى :
" ( مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) فظاهر هذا التخصيص : تقسيم المنكوحات إلى : أن
لنا أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج
خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الأعداد . وذلك كما تقول : اقسم الدراهم بين الزيدين
، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك : أن تقع القسمة على
هذا التفصيل دون غيره ، فلا يجوز لنا أن نعطي أحدا من المقسوم عليهم خمسة خمسة "
انتهى من " البحر المحيط " (3 / 171) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره " .
انتهى من " تفسير ابن كثير " (2 / 209) .
وأما السنة النبوية فقد أكدت
هذا الحكم وبينت أن الآية تدل على أنه لا يجوز للرجل أن يتجاوز هذا العدد :
روى الترمذي (1128) ، وابن ماجه (1953) عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ
الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَأَسْلَمْنَ
مَعَهُ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ " .
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى :
" وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع طريقيه عن سالم عن ابن عمر . وقد صححه ابن حبان
والحاكم والبيهقى وابن القطان ، لاسيما وفى معناه أحاديث أخرى " .
انتهى من " ارواء الغليل " (6 / 294) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله
عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق
سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ،
ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب " انتهى من
" تفسير ابن كثير " (2 / 211) .
وقد جاءت أحاديث أخرى بهذا
المعنى .
فعَنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ أو قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ : "
أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَان نِسْوَةٍ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا ) "رواه أبوداود (2241) وحسنه الألباني في " ارواء
الغليل " (6 / 295) .
وروى الشافعي في كتابه " الأم " (5 / 652) بسنده عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
قَالَ : " أَسْلَمْت وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا أَيَّتُهُنَّ شِئْت
وَفَارِقْ الْأُخْرَى ) " وضعفه أهل العلم بسبب الانقطاع في السند .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان ، كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي ،
رحمه الله " انتهى من " تفسير ابن كثير " (2 / 212) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
" فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن انتهاء الله عز وجل في العدد
بالنكاح إلى أربع ، تحريم أن يجمع رجل بنكاح بين أكثر من أربع " انتهى من " الأم "
(6 / 131).
وأما الإجماع ، فقد نقله عدد
من أهل العلم ، على أنه لا يجوز للرجل أن يتجاوز هذا العدد .
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
" واتفقوا على أن نكاح أكثر من أربع زوجات ، لا يحل لأحد بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم " .
انتهى من " مراتب الإجماع " (ص 115).
وقال البغوي رحمه الله تعالى :
" وهذا إجماع : أن أحدا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة ، وكانت الزيادة
من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها ".
انتهى من " تفسير البغوي" (2 / 161) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وهو يذكر مفاسد القول بجواز التحليل
:
" ومنها : أنه يجمع ماءه في أكثر من أربع نسوة ، بل أكثر من عشر ، وهو ما أجمع
الصحابة على تحريمه " انتهى من " الفتاوى الكبرى " (6 / 264) .
ثانيا :
أما الاستدلال بزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع ، فهو استدلال باطل .
لأن السنة وإجماع الأمة ، قد بينا أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، كما مرّ
بيان ذلك ، والله تعالى يقول :
( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء /115 .
ثالثا :
أما قول الله تعالى :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فاطر /1 .
فهذه الآية لا يصح الاعتراض بها على الاستدلال السابق ، لأن الآية نفسها قد جاء
فيها ما يشير إلى أنه يوجد من الملائكة من له أجنحة أكثر من هذا العدد ، وذلك في
قوله تعالى : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى :
" وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء ،
ونقصانه عن الآخر ما أحب ، وكذلك ذلك في جميع خلقه ، يزيد ما يشاء في خلق ما شاء
منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له الخلق والأمر ، وله القدرة والسلطان ".
انتهى من " تفسير الطبري " (19 / 327) .
كما بيّنت السنة النبوية أن
من الملائكة من له أجنحة أكثر من أربع ، كذلك بيّنت أنه لا يجوز للرجل أن يجمع بين
أكثر من أربع زوجات .
فيجب علينا الرجوع إلى السنة في فهم القرآن في جميع الأحوال ولا نتخيّر ونتبع الهوى
.
رابعا :
أما حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ : أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ
، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا ، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ ، وَيَقِلَّ
الرِّجَالُ ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ ) رواه
البخاري (81) ، ومسلم (2671) : فليس فيه دلالة على جواز الجمع بين أكثر من أربع
زوجات ، للآتي :
1-الحديث في مقام الإخبار عن فتن آخر الزمان ، وليس في مقام بيان المباحات ،
فالحديث فيه ( وَيَظْهَرَ الزِّنَا ) فهل يستدل به عاقل على إباحة الزنا ؟!
2- لفظة " القيّم " لا تطلق على الزوج فقط ؛ بل على كل من يقوم على شؤون المرأة
وقضاء مصالحها ، فالرجل يجتمع عنده من البنات وبناتهن ومحارمه : ما يصل إلى الخمسين
نفسا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقال القرطبي في التذكرة : يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن ، سواء كن موطوءات
أم لا .
ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول الله الله ، فيتزوج
الواحد بغير عدد جهلا بالحكم الشرعي .
قلت : وقد وجد ذلك من بعض أمراء التركمان وغيرهم من أهل هذا الزمان ، مع دعواه
الإسلام . والله المستعان " انتهى من " فتح الباري " (1 / 179) .
والله أعلم .
تعليق