السبت 11 شوّال 1445 - 20 ابريل 2024
العربية

التمذهب لا يستلزم العمل بكل ما في المذهب

236063

تاريخ النشر : 11-04-2019

المشاهدات : 13294

السؤال

نحن منذ صغرنا نتعبد الله بأقوال علمائنا المعاصرين، بل كتب الفقه في المراحل الدراسية مؤلفة من قبل علماء، وهذه الأقوال قد لا تكون كلها في إطار المذهب الحنبلي، إذ قد يخرج العالم عن المذهب في مسائل حسب نظره، وكذلك فتاوى اللجنة الدائمة.

فهل يعني تعلم الفقه والتمذهب على مذهب معين خروج الطالب مما كان يعمل به إلى تقليد هذا المذهب، حتى يظهر له خلافه، فيخرج عنه حينئذ؟

أفيدوني بارك الله فيكم.

ملخص الجواب

ننصحك بدراسة مذهب فقهي والتدرج في مراحله العلمية، وفي الوقت نفسه لا حرج عليك في الاستمرار في العمل على ما نشأت عليه من فتاوى علماء بلدك، كما أنه لا حرج عليك في تغيير العمل إلى المذهب الذي تعتزم دراسته، حتى يتبين لك أن هذا القول هو الصواب فيجب عليك العمل به ولا يجوز تركه إلى غيره .

الجواب

الحمد لله.

يجب أن نفرق في هذا الموضوع بين جهتين من العلم والمنهجية:

الأولى:

من جهة المنهج الدراسي للفقه الإسلامي، وما ينبغي أن يتدرج به طالب العلم في طلبه وتفهمه، فهذا لا بد أن ينطلق من المذهب المعين، ونصيحتنا الضرورية لطالب العلم أن يتأسس عليه، فيبدأ بمتونه الأساسية، ويستشرحها عند فقهاء المذهب، ثم ينتقل إلى كتبه المتوسطة، فيفهم مداركها، ويحفظ مسائلها، ويعرف أدلتها، ولا يخلط المذاهب ببعضها، ولا يتنقل بدعوى الترجيح والدليل، حيث لم يتأهل بعد للترجيح بين المسائل.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى كتب المذهب الموسعة، وكتب القواعد الفقهية والأصولية المؤسسة لتلك الفروع، وحينئذ سيلحظ بإذن الله ثمار العقلية المنهجية التي سلكها في التفقه والتعلم، ستنعكس عليه إدراكا لمسالك الفقه الصحيحة، وقدرة على تخريج المسائل ، وطرد القياس والأصول، واستحضارا في الوقت نفسه لما عليه فقهاء المذهب فيما يعرض له من المسائل، وما يحتاج إليه من العمل.

وقد سبق في موقعنا الحديث عن ضرورة "التمذهب" كمنهجية فقهية لطالب العلم، كي تساعده على تفهم هذا العلم الدقيق الواسع الفروع، وذلك في الأجوبة رقم: (229254) ، (103339)، (226254)، (228194)، (222908)

الثانية:

من جهة العمل والتعبد، فهذا لا يضر المسلم بإذن الله : أن يستمر فيه على ما نشأ عليه من فتاوى العلماء في بلده، أو يأخذ فيه بأحد المذاهب التي تعلمها وتربى عليها .

وإذا عمل بمذهب ، أو بقول عالم مرة ، وعمل بمذهب آخر ، أو بفتوى مفت آخر ، مرة ثانية : فلا حرج عليه ، ما دام لم يتبع الهوى في التخير والانتقاء، وما لم يتقصد تتبع رخص المذاهب ، وشواذ الفقه .

فالمهم في العمل والتعبد أن يسير المسلم فيه على بصيرة من العلم، سواء كانت تلك البصيرة حنفية، أو مالكية، أو شافعية، أو حنبلية، أو منوعة من هذه المذاهب ، بحسب ما يبلغه علمه وجهده ، أو يفتيه به مفتيه وعالم بلده ؛ فكلهم يحققون للمسلم الفرض الواجب عليه في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] .

وعلى ذلك :  فلا حرج على المسلم أن يقلد في العمل والتعبد مذهبا آخر، سوى المذهب الذي نشأ عليه وتعلمه ، ولا حرج عليه أيضا أن يستمر في عمله على ما كان عليه من فتاوى علماء بلده ؛ بل هذا هو الفرض الواجب ـ أصالة ـ على من لم يتأهل للنظر بنفسه في كلام أهل العلم : أن يستفتي  عالم بلده ، أو عالم وقته الذي يبلغه علمه ، ويمكنه مسألته ، ويعمل بقوله .

والجواز يشمل طالب العلم الذي يتجه لدراسة مذهب من المذاهب، لتحصيل التأصيل الفقهي على أصول ذلك المذهب وفروعه وقواعده .

ويشمل أيضا العامي الذي لم يسلك طريق دراسة المذهب من كتبه المعتمدة.

يقول الكمال بن الهمام رحمه الله:

"لو التزم مذهبا معينا كأبي حنيفة أو الشافعي ؛ فهل يلزمه الاستمرار عليه ، فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل ؟ 

قيل: يلزم؛ لأنه بالتزامه يصير ملزما به ، كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة؛ ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق ، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده.

وقيل: لا يلزم، وهو الأصح كما في الرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة ، فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر ، دون غيره ...

" انتهى من "التقرير والتحبير" (3/ 350)

وجاء في "رد المحتار" (1/ 75) من كتب الحنفية:

"تحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه ، مقلدا فيه غير إمامه، مستجمعا شروطه" انتهى.

ويقول الإمام القرافي رحمه الله:

"قال يحيى الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط:

أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ، ولا ولي، ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.

وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رمياً في عماية.

وأن لا يتتبع رخص المذاهب.

قال : والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى الخيرات، فمن سلك منها طريقاً وصله.

قاعدة: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء، بغير حجر، وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، أو قلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل" انتهى من " شرح تنقيح الفصول" (ص: 432)، وانظر "الفواكه الدواني" (1/24)

ويقول العز ابن عبد السلام رحمه الله:

"له أن يقلد في كل مسألة من شاء من الأئمة، ولا يتعين عليه إذا قلد إماماً في مسألة، أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن ظهرت المذاهب: يسألون فيما يسنح لهم ، العلماءَ المختلفين ، من غير نكير من أحد" انتهى من "فتاوى العز ابن عبد السلام" (ص: 25) .

وينظر أيضا : "الفتاوى الفقهية الكبرى" ، لابن حجر الهيتمي (4/325)، " شرح الكوكب المنير" (4/ 577)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – ناقلا عن ابن حمدان ومقررا له -:

"من التزم مذهبا معينا ، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه؛ ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله؛ فإنه يكون متبعا لهواه ، وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد ، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي ؛ فهذا منكر.

وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين .

وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ، ثم يعتقده غير واجب ولا حرام ؛ بمجرد هواه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/220)

وانظر في موقعنا الجواب رقم: (229013) .

وإن شئنا الإنصاف ، وحقيقة الأمر ، لا الزعم والدعوى : فقد نص غير واحد من أهل العلم على أن العامي لا مذهب له أصلا ، حتى يتعنت باتباع المذهب ، أو تقليده ، أو الخروج على قول المذهب ، أو الدخول فيه ؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه ، والواجب في حقه : اتباع العالم الذي وثق بعلمه ودينه ، واستفتاه .

قال ابن القيم رحمه الله :

" لا يصح للعامي مذهب ، ولو تمذهب به ؛ فالعامي لا مذهب له ؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ، ويكون بصيرا بالمذاهب ، على حَسَبِه ، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب ، وعرف فتاوى إمامه ، وأقواله .

وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة ، بل قال أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك : لم يصر كذلك بمجرد القول ، كما لو قال أنا فقيه ، أو نحوي ، أو كاتب : لم يصر كذلك بمجرد قوله !!

يوضحه : أن القائل : إنه شافعي ، أو مالكي ، أو حنفي ؛ يزعم أنه متبع لذلك الإمام ، سالك طريقه !!

وهذا إنما يصح له : إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال ؛ فأما مع جهله ، وبعده جدا عن سيرة الإمام ، وعلمه وطريقه ؛ فكيف يصح له الانتساب إليه ، إلا بالدعوى المجردة ، والقول الفارغ من كل معنى ؟!!" انتهى ، من "إعلام الموقعين" (4/262) . ونقله : "ابن أمير الحاج" في "التقرير والتحبير" (3/351) ، و"أمير بادشاه" في "تيسير التحرير" (4/253) .

ولفضيلة الشيخ الدكتور يوسف الغفيص حفظه الله ، كلام محرر مرتب حول مقاصد هذه المسألة ، في محاضرته النافعة : "المنهجية في دراسة الفقه" نورده هنا بتمامه لأهميته في تلخيص المسألة .

قال حفظه الله :

" لقد تكونت في الأمة عدة مذاهب، ولكن الذي انضبط في ما بعد هي المذاهب الخمسة التي أشرت إليها سابقاً، ثم جاء -ولاسيما بعد القرن العاشر- من صرح بنقد التمذهب، ونحن نقول: هل التمذهب نوع من التدين أم أنه نوع من الترتيب العلمي؟

لقد كان التمذهب في أصله ترتيباً علمياً، بمعنى: أنك إذا قلت: إن فلاناً من الشافعية، أو الحنفية، أو إن ابن عبد البر مالكي، فإن معنى ذلك: أنه على أصول الإمام مالك في الاستدلال؛ لأنه سبق معنا أن الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع، ثم ما يسمى بالأدلة المختلف فيها .

فهذا معنى التمذهب بصورته العلمية السائغة الذي هو من باب التراتيب العلمية، أي: أن جماعةً من أهل العلم اختاروا أصول فقه الشافعي ، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه أحمد أو أهل الحديث من البغداديين ونحوهم، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه الإمام مالك .. وهكذا.

فإذا فهم التمذهب على هذا الوجه فهو من باب التراتيب العلمية .

وهل هذا هو الذي وقع في التاريخ أم أن الذي وقع هو التعصب؟

نقول: لقد وقع في التاريخ هذا وذاك، فكما أن ثمة محققين من أصحاب الأئمة الأربعة يسمون مذهبيين، على هذا المعنى السابق الذي ليس هو من باب التدين والتعصب، وإنما من باب التراتيب العلمية والاختيار في الاجتهاد، فكذلك وُجد المتمذهبون المتعصبون.

ولذلك إذا قيل: هل ينكر التمذهب أو لا ينكر؟

قيل: بحسب المقصود: أما من ينكر التمذهب جملةً وتفصيلاً فيقول: إنه لا يجوز لعالم أن يقول: إنه حنبلي أو شافعي، حتى وإن قصد أنه يختار أصول الاستدلال عند الشافعي، ويقدمها على أصول الاستدلال عند مالك ، بمعنى: أنه مثلاً لا يستعمل إجماع أهل المدينة، خلافاً للمالكي الذي يستعمل إجماع أهل المدينة، فيبني فقهه على أصول الإمام الشافعي ، فإن هذا التمذهب بهذا المفهوم بدعة أو ضلالة. فهذا تقحم في المسائل .. ؛ لأنه يخالف إجماع الأمة في قرون مضت؛ لأنك وإن قلت: إنه وجد من العلماء من لم يتمذهب، فإنه لم ينقل عن عالم في جملة من قرون الأمة أنه صرح بإنكار التمذهب على هذا المفهوم .

ثم إن التمذهب بهذه الصورة ، والذي هو اقتفاء بعض أصول الفقه عند فلان أو فلان، لم ينشأ مع المذاهب الأربعة، بل نص الشافعي في رسالته ، وقال: كان كثير من المكيين أو أكثرهم لا يخرجون عن قول عطاء ، وكان كثير من أهل المدينة لا يخرجون عن قول سعيد بن المسيب ، ثم لما ظهر فيهم مالك واشتهر علمه ، بدؤوا يتبعون الإمام مالك ، قال: وكان أهل العراق يأخذون بقول النخعي .

فكان هذا أمرًا معروفًا عند العلماء، ولذلك إذا قرأت في كتب العلم المطولة، أو ما يتعلق ببعض الفقهيات؛ تجد أن مالكاً في الموطأ ، أو في جواباته في المدونة ربما علل كثيراً من جوابه بقوله: أدركنا العلماء على ذلك..

أما إذا تحول التمذهب إلى أن هذا المذهب هو الراجح وما عداه يكون مرجوحاً، أو تقديم قول الحنابلة على الشافعية مطلقاً، أو التعصب، أو هجر السنن النبوية تقديماً للمذاهب الفقهية؛ فلا شك أن هذا تمذهب مذموم في شريعة الله، وبإجماع أئمة المسلمين المتقدمين." .

انتهى ، باختصار من :

 https://al-maktaba.org/book/33674/48

والخلاصة :

أننا ننصحك بدراسة مذهب فقهي والتدرج في مراحله العلمية، وفي الوقت نفسه لا حرج عليك في الاستمرار في العمل على ما نشأت عليه من فتاوى علماء بلدك، كما أنه لا حرج عليك في تغيير العمل إلى المذهب الذي تعتزم دراسته، حتى يتبين لك أن هذا القول هو الصواب فيجب عليك العمل به ولا يجوز تركه إلى غيره .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب