الحمد لله.
أقدم من وقفنا عليه قرر هذه الأسرار الواردة في السؤال، والمنسوبة لكلمة التوحيد، هو الإمام أبو البقاء الدميري الشافعي (ت808)، واسمه محمد بن موسى، وذلك في كتابه "النجم الوهاج في شرح المنهاج" (1/ 192) حيث يقول:
"وفي كلمة (لا إله إلا الله) أسرار:
منها: أن جميع حروفها جوفية، ليس فيها حرف شفهي؛ إشارة إلى الإتيان بها من خالص الجوف وهو القلب.
ومنها: أنه ليس فيها حرف معجم؛ إشارة إلى التجرد عن كل معبود سواه.
ومنها: أنها اثنا عشر حرفاً كشهور السنة، منها أربعة حرم وهي الجلالة، حرف فرد وثلاثة سرد، وهي أفضل كلماتها، كما أن الحرم أفضل السنة، فمن قالها مخلصاً كفرت عنه ذنوب سنة.
ومنها: أن الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة، وهي و (محمد رسول الله) أربعة وعشرون حرفاً، كل حرف منها يكفر ذنوب ساعة" انتهى. ونقله الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/94).
ونحن هنا نفرق بين مقامين
مهمين في التعليق على هذا الطرح ونحوه:
المقام الأول:
أن تُجعل هذه اللطائف علامات "إعجاز" و "تحد"، وتنشر على سبيل الانبهار المقرون
بالاعتقاد بصحة النبوة والرسالة بسبب هذا الاكتشاف.
أو تقرر مثل هذه الأفكار لغرض تعليق عامة الناس بها، وشغل الأوقات في جمعها
وقراءتها والمناقشة فيها :
فهذا كله من الخطأ البين، الذي تسببه العاطفة غير المقرونة بالعلم والفقه في الدين.
فالإسلام لا يقوم على مناسبات عددية، ولا لطائف رقمية، ولا يتحدى غير المسلمين بمثل
هذه الملاحظات . وإنما جاء بالحجة والبرهان العقليين، وباليقين القلبي ،
والاستدلالات الفطرية المركوزة في النفس وما حولها من آيات الكون ، ومظاهر الكمال
في العقيدة والتشريع ، إلى آخر الآيات العظيمات التي تمثل الإعجاز الحقيقي.
المقام الثاني:
أن تساق هذه اللطائف الرقمية على سبيل الاستئناس والاستملاح ، فحسب .
أو لأجل إعمال الذهن وتمرين العقل على الربط الحسابي ببعض المناسبات .
أو لفت النظر لبعض "الاتفاقات" العددية ، التي هي جزء يسير من كمال خلق هذا الكون
وعجائب ما فيه – فهذا مقام لا بأس فيه ولا حرج، ولا نرى غضاضة في طرحه وإيراده، على
أن يتحرى قائله الدقة والموضوعية، ويجتنب التكلف والتمحل .
ثم هو بعد ذلك كله : لا يخرج عن كونه اجتهادا من قائله لا يُجزم بصحته ، بل يحتمل
الحق ، كما يحتمل الباطل ، ويحتمل الصواب ، كما يحتمل الخطأ !!
وما أورده الإمام الدميري
رحمه الله يمكننا قبوله في إطار المقام الثاني، فكلمة (لا إله إلا الله) إذا
احتسبنا ما فيها من أحرف مكتوبة – وليس الأحرف المنطوقة – يكون عددها اثنا عشر
حرفا.
وكذلك كلمة (محمد رسول الله) عدد الأحرف المكتوبة خطا – دون المنطوقة – اثنا عشر
حرفا. فيكون المجموع أربعة وعشرين حرفا.
وكلمة التوحيد بشقيها من قالها مخلصا من قلبه يدخل الجنة، ويغفر له ذنبه إذا صدق بها، فكانت كأنها تمحو ذنوب كل ساعة، فكانت مناسبتها كما ذكرها الإمام رحمه الله.
وكذلك الشق الأول من كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، له فضل تكفير الذنوب، ودخول الجنة بإذن الله، بشرط الإخلاص والعمل واليقين، ومع تضمن الشق الثاني أيضا، فقد يُلاحَظُ من ذلك : تساوي عدد حروفها المكتوبة بعدد أشهر السنة.
وذلك كما قلنا من اللطائف المناسبة التي يقتصر فيها على هذا القدر، ولا يبالغ في اعتبارها إعجازا، أو أسرارا باطنية خاصة، يستأثر بعض الناس بعلمها، أو تمنح العالم بها فضيلة معينة أو تأثيرا واسعا، فهذا كله من الغلو الممنوع في دين الله سبحانه.
وقد علق الخطيب الشربيني
رحمه الله - على ما ذكره الدميري من أن جميع حروفها جوفية للإتيان بها من خالص
الجوف – فقال:
"أي ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا
إله إلا الله خالصا مخلصا من قلبه)"
وعلق على قول الدميري "ومنها أنه ليس فيها حرف معجم ، إشارة إلى التجرد من كل معبود
سواه" فقال:
"أي ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتك لا
يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق)" .
كما علق أخيرا على قول الدميري "فمن قالها مخلصا كفرت عنه ذنوب سنة" فقال:
"أي كما روي عن بعض السلف" انتهى من "مغني المحتاج" (1/ 94) .
وفضائل "لا إله إلا الله" المذكورة صحيحة ، وفضائلها أعظم من ذلك ، لكن الربط بين هذه الفضائل وعدد حروفها لا يخرج عن كونه مجرد استنباط لبعض اللطائف التي لا يجزم بها ، ولا تعاب من قائلها ما دامت لم تخرج إلى المبالغة والتكلف ، وشهد لأصلها الاعتبار الشرعي الصحيح .
هذا وننبه إلى أن أكثر
العلماء يعدون الأحرف المرسومة في الكلمة، وليس الأحرف المنطوقة، تجد هذا التنبيه
والتفصيل في كلام علماء الرسم والقراءات، حين يتحدثون عن عدد أحرف القرآن الكريم،
كمثل الإمام أبي عمرو الداني رحمه الله (ت444هـ) حيث يقول – مخطِّئًا مَن عدَّ
الأحرف الملفوظة -:
"إذ كان ذلك خلافا لما ذهب إليه السلف، وعُدولا عما قصدوا إليه من عدد الحروف
وتحصيلها على حال صور الكلم في الرسم، دون استقرارهن في اللفظ .
وكان الذي دعاهم إلى ذلك - مع ما فيه من تعظيم القرآن وتبجيله وحياطته من مدخل
الزيادة والنقصان فيه - التعريف بما لقارئ القرآن - إذا هو تلاه كله أو بعضه - من
الحسنات، إذ كان له بكل حرف منه عشر حسنات.
ومن الدليل على صحة ما قلناه - من أنهم عدُّوا الحروف على حال الرسم ، دون اللفظ ،
بخلاف ما ذهب إليه من تقدم ذكره - ما حدثناه [وساق سنده] عن عبد الله بن مسعود قال:
تعلموا القرآن واتلوه؛ فإنكم تؤجرون فيه بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول (ألم)
حرف، ولكن ألف، ولام، وميم، ثلاثون حسنة.
ألا ترى أن صورة (الم) في الكتابة ثلاثة أحرف: ألف، ولام، وميم، وهي في التلاوة
تسعة أحرف: ألف، ولام، وفاء، ولام، وألف، وميم، وميم، وياء، وميم، فلو كانت الكلمة
إنما تعد حروفها على حال استقرارها في اللفظ دون الرسم ، لوجب أن يكون لقارئ (ألم)
تسعون حسنة، إذ هي في اللفظ تسعة أحرف، فلما قال الصحابي - وبعضهم يرفعه -: إنها
ثلاثة أحرف، وإن لقارئها ثلاثين حسنة، لكل حرف منها عشر حسنات، ثبت أن حروف الكلم
إنما تعد على حال صورهن في الكتابة دون اللفظ، فإن الثواب جار على ذلك، وإذا ثبت
ذلك بطل ما ذهب إليه من تقدمنا بذكره" انتهى من " البيان في عد آي القرآن" (ص75-76)
.
والله أعلم.
تعليق