الحمد لله.
أولا :
هذا الخبر نقله ابن عبد البر في " الاستيعاب " (4 / 1789) ، وابن حجر في " الإصابة " (13 / 154) عن عمر بن شبّة ولفظه : " وقال عمر بن شبّة : حدثنا علي بن محمد النّوفلي ، عن أبيه ، أنه حدثه عن أهله ، أنّ عليّا لما حضرته الوفاة قال لأمامة بنت العاص : إني لا آمن أن يخطبك هذا الطاغية بعد موتي ، يعني معاوية ، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا .
فلما انقضت عدّتها كتب معاوية إلى مروان يأمره أن يخطبها عليه ، وبذل لها مائة ألف دينار ، فأرسلت إلى المغيرة : إن هذا قد أرسل يخطبني ، فإن كان لك بنا حاجة فأقبل ، فخطبها إلى الحسن فزوجها منه " انتهى .
وسند هذه القصة ضعيف جدا ،
فيه ثلاث علل ، كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر ؛ حيث قال رحمه الله تعالى :
" النوفلي ضعيف جدا ، مع انقطاع الإسناد ، والراوي المجهول فيه " .
انتهى من " الإصابة " (13 / 154) .
والصحابة رضي الله عنهم ، رغم ما حصل بينهم من اختلاف ، واقتتال أحيانا ؛ إلا أنهم كانوا أعف الناس ألسنة ، فلم يثبت عنهم أنهم كانوا يسبون بعضهم بعضا ، بل كانوا يقرون لمن خالفهم بفضيلته ، ويعلمون أنه فعل ما فعل اجتهادا ، وظنًّا منه أن هذا هو الحق .
وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة فيما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من اختلاف ، مع كف ألسنتنا عن الخوض في ذلك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله تعالى :
" وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " من تأليفه ،
بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع عليا في الخلافة ؛ أو
أنت مثله ؟
قال : لا ، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل
مظلوما، وأنا ابن عمه ، ووليه ؛ أطلب بدمه ؟ فأْتُوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة
عثمان .
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ، وسار معاوية حتى نزل
هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر ، فوقع القتال ".
انتهى من " فتح الباري " (13 / 86) .
وروى ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (1 / 343) بإسناده عن سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : " ذُكِرَ عند علي يومُ صفين - أو يومُ الجمل - فذكرنا الكفر ، قال : لا تقولوا ذلك ، وزعموا أنا بغينا عليهم ، وزعمنا أنهم بغوا علينا ، فقاتلناهم على ذلك " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى :
" ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين ، وإن قالوا في إحداهما:
إنهم كانوا بغاة ، لأنهم كانوا متأولين مجتهدين ، والمجتهد المخطئ لا يكفر ولا يفسق
" .
انتهى من " منهاج السنة " (4 / 394) .
فالحاصل ؛ أن كل واحد منهما
كان يعتقد أنه المصيب ولم يتعمدا ارتكاب ما نهى الله عنه ؛ فلهذا لا تنقص هذه
الفتنة من مقدار أحدهما وما ثبت له من فضل الصحبة .
وراجع للأهمية الفتوى رقم : (201963) .
ثم إنه قد تم الصلح بين الطرفين بعد وفاة علي رضي الله عنه ، وقد أثنى النبي صلى
الله عليه وسلم على هذا الصلح قبل وقوعه .
عن أَبي بَكْرَةَ ، قال : " سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ ، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً
وَإِلَيْهِ مَرَّةً ، وَيَقُولُ : ( إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ
أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عظيمتين مِنَ المُسْلِمِينَ ) رواه البخاري
(2704) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن : (
إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
فأصلح الله به بين عسكر عليّ
وعسكر معاوية ، فدل على أن كليهما مسلمون ، ودل على أن الله يحب الإصلاح بينهما،
ويثني على من فعل ذلك ، ودل على أن ما فعله الحسن كان رضى لله ورسوله " انتهى من "
منهاج السنة " (8 / 529) .
والواجب على المسلم اليوم أن يتبع هذا الصلح ويستجيب له ، فيكفّ لسانه عن الخوض
فيما جرى بينهم ، ولا يعيد إحياء تلك الفتنة .
ثانيا :
لفظة " الطاغية " في لغة العرب معناها :
" الجَبَّارُ ، والأحْمَقُ المُتَكَبِّرُ " انتهى من " القاموس المحيط " (ص 1307) .
ومع عدم صحة وصف علي رضي الله عنه لمعاوية بأنه " طاغية " ، فإن هذا الوصف خلاف ما ثبت وصح من عدل معاوية رضي الله عنه ، وما اشتهر به من الحلم والرأفة والعقل .
- وحسبك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد اختاره ، وأدناه ، وجعله من كتبة الوحي .
- واختاره الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أميرا على الشام ، وهذه تزكية من عمر
لمعاوية بأنه من أهل العدل والعقل .
وبعد وفاة عمر رضي الله عنه
أقره الخليفة الراشد عثمان بن عفان على ولاية الشام .
قال الذهبي رحمه الله تعالى :
" قال خليفة : ثم جمع عمر الشام كلها لمعاوية ، وأقره عثمان .
قلت
– أي الذهبي - : حسبك بمن يؤمِّره عمر ، ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر – فيضبطه ،
ويقوم به أتم قيام ، ويرضي الناس بسخائه وحلمه ، وإن كان بعضهم تألم مرة منه ،
وكذلك فليكن الملك .
وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا منه بكثير ، وأفضل ،
وأصلح ، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله ، وفرط حلمه ، وسعة نفسه ، وقوة
دهائه ورأيه " انتهى من " سير أعلام النبلاء " (3 / 132 – 133) .
وقد
اشتهر معاوية بالعدل والحلم حتى صار مثلا يضرب للحلم والرأفة والبعد عن الطغيان ،
ولا يذكر في كتب التاريخ والأخبار بغير هذا .
قال أبو عبيدة :
" حلماء العرب : قيس بن عاصم المِنقري ، والأحنف بن قيس السعدي ، ومعاوية ابن أبي
سفيان ... " انتهى من " الديباج " (ص 116) .
وقال ابن كثير رحمه الله
تعالى :
" واجتمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا ، فلم يزل مستقلا
بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو
قائم ، وكلمة الله عالية ، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في
راحة وعدل وصفح وعفو " .
انتهى من " البداية والنهاية " (11 / 400) .
وهذا الذي اتفق عليه أهل
العلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة ، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء
نبوة ، وهو أول الملوك ؛ كان ملكه ملكا ورحمة ، كما جاء في الحديث: ( يكون الملك
نبوة ورحمة ، ثم تكون خلافة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك
عضوض ) وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ، ما يعلم أنه كان خيرا من ملك
غيره.
وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة " انتهى من " مجموع الفتاوى " (4 / 478) .
والله أعلم .
تعليق