الحمد لله.
أولا:
القول: بأن آخر أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان يسجد للسهو كله قبل السلام.
لم نقف على من نسبه لابن عباس رضي الله عنه بهذه الصيغة أو مايقاربها، لكن أهل العلم ينسبون لابن عباس قولين في هذه المسألة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" واختلف العلماء في سجود السهو: فقال ابن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي: السجود كله قبل السلام. وروي هذا القول عن أبي هريرة، وابن أبي السائب، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية، وابن عباس ...
وقال سفيان الثوري، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة وأصحابه: السجود كله بعد السلام. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، والضحاك بن قيس، وعمران بن حصين.
واختلف في ذلك عن معاوية بن أبي سفيان، وعن ابن عباس " انتهى. "التمهيد" (10 / 201 - 204).
وابن المنذر رحمه الله – مع سعة اطلاعه- لم ينسب لابن عباس إلّا القول الثاني ، وهو أن السجود كله بعد السلام.
وينظر: "الإشراف" لابن المنذر (2 / 72) ، و"الأوسط" لابن المنذر أيضا (3/500) وما بعدها.
ثانيا:
قال البيهقي في "السنن الكبرى" (4 / 534) وفي "معرفة السنن" (3 / 278 - 279) : " روى الشافعي في القديم عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري قال: ( سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام ). " انتهى.
وهذا السند ضعيف لأمرين:
الأمر الأول: مطرف بن مازن، ضعفه أهل العلم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" مطرف بن مازن الصنعاني، عن معمر، ضعفوه. وقال ابن معين: كذاب " انتهى. "المغني" (2 / 662).
الأمر الثاني:
الانقطاع ؛ لأن الزهري لم يذكر سنده إلى صحابي يخبر بذلك.
ولذا قال البيهقي بعد ذكره لأثر الزهري :
" إلا أن قول الزهري منقطع ، لم يسنده إلى أحد من الصحابة، ومطرف بن مازن غير قوي " انتهى. "السنن الكبرى" (4 / 534).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وروي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام.
ومطرف هذا، ضعيف، وغاية هذا أنه من مراسيل الزهري، وهي من أوهى المراسيل " انتهى ، من "فتح الباري" (9 / 448).
ثالثا:
القول بأن سجود السهو بعد السلام منسوخ قول غير صحيح؛ فالنصوص الشرعية التي ظاهرها التعارض إذا أمكن التوفيق بينها فلا يصح أن يترك أحدها بدعوى الترجيح أو النسخ.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " انتهى. "أضواء البيان" (5 / 161).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وكان الإمام أحمد يتورع عن إطلاق النسخ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة ، بمجرد الاحتمالات ، مع إمكان الجمع بينها وبين ما يدعى معارضها : غير جائز، وإذا أمكن الجمع بينها ، والعمل بها كلها : وجب ذلك، ولم تجز دعوى النسخ معه " انتهى. "فتح الباري" (6 / 155).
وأحاديث سجود السهو قبل السلام وبعده لم ترد في صورة واحدة من السهو حتى يتعذر الجمع بينها، بل صورها متغايرة.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:
" رواية الزهري مرسلة .
ولو كانت مسندة ، فشرط النسخ: التعارض باتحاد المحل. ولم يقع ذلك مصرحا به في رواية الزهري.
فيحتمل أن يكون الأخير: هو السجود قبل السلام، لكن في محل النقص .
وإنما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو تبين أن المحل واحد ولم يتبين ذلك " انتهى. "احكام الأحكام" (1 / 258).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وسجود النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام وبعده، إن كان في صورتين، أمكن العمل بهما معا، وإن كان في صورة واحدة، دل على جواز الأمرين، والعمل بهما جميعا، والنسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع ولو بوجه " انتهى. "فتح الباري" (9 / 449).
قال أبو المعالي الجويني رحمه الله :
" وهذا يعضده أمر في الأصول، وهو أن فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتضمن الإيجاب عند المحققين، ولكنه يتضمن الجواز والإجزاء، فلئن صح ما ذكره الزهري أنه سجد قبل السلام آخراً، فهذا لا يُعيِّن ذلك، ولا ينفي جواز ما تقدم." انتهى، من "نهاية المطلب" (2/240) .
رابعا:
والجمع بين الأحاديث الواردة بالسجود للسهو قبل السلام وبعده أن يقال :
إن هذه الأحاديث تدل على جواز الأمرين . قال النووي رحمه الله : " قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ لِلزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَفْضَلِ " . انتهى، "شرح مسلم" للنووي (5/56) . وينظر : "فتح الباري" (3/94) .
ولا شك أن الأولى والأفضل : هو موافقة السنة في المواضع التي ورد فيها السجود قبل السلام أو بعده ، واستعمال السنة في مواضعها التي وردت بها .
وينظر للفائدة : "الأوسط" لابن المنذر (3/507) .
ثم إنه يقاس على هذه المواضع ما كان مثلها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فأظهر الأقوال الفرق بين الزيادة والنقص وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين. وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وقول مالك قريب منه، وليس مثله، فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها: فيه الفرق المعقول؛ وذلك أنه إذا كان في نقص كترك التشهد الأول احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة.
وإذا كان من زيادة -كركعة- لم يجمع في الصلاة بين زيادتين بل يكون السجود بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان، بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السجدتين كركعة.
وكذلك إذا شك وتحرى : فإنه أتم صلاته وإنما السجدتان لترغيم الشيطان ، فيكون بعد السلام ... وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ، ثم أكملها : فقد أتمها، والسلام منها زيادة والسجود في ذلك بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان.
وأما إذا شك ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلى أربعا أو خمسا، فإن كان صلى خمسا فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه قد صلى ستا لا خمسا، وهذا إنما يكون قبل السلام ...
فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح، فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص " انتهى. "مجموع الفتاوى" (23 / 24 - 25).
وراجع للفائدة الفتوى رقم (12527).
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
"بعض الأئمة يسجد للسهو بعد السلام وبعضهم يسجد له قبل السلام. وبعضهم يسجد مرة قبل السلام وأخرى بعده. فمتى يشرع السجود قبل السلام ومتى يشرع بعده. وهل ما يشرع فيه السجود قبل السلام أو بعده على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟
فأجاب :
الأمر واسع في ذلك فكلا الأمرين جائز وهما السجود قبل السلام وبعده؛ لأن الأحاديث جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الأفضل أن يكون السجود للسهو قبل السلام إلا في صورتين:
إحداهما: إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر. فإن الأفضل أن يكون سجود السهو بعد إكمال الصلاة والسلام منها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عن نقص ركعتين في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعن نقص ركعة في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، سجد للسهو بعد التمام والسلام.
والصورة الثانية: إذا شك في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً في الرباعية ؟ أو اثنتين أو ثلاثاً في المغرب ؟ أو واحدة أو ثنتين في الفجر ؟ لكنه غلب على ظنه أحد الأمرين وهو النقص أو التمام ، فإنه يبني على غالب ظنه ويكون سجوده بعد السلام على سبيل الأفضلية ، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ، ثم ليسلم ، ثم يسجد سجدتين بعد السلام) . خرجه البخاري في الصحيح. والله ولي التوفيق" انتهى من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (11/267) .
وينظر السؤال رقم (12527) ، (77430) .
والله أعلم.
تعليق