الحمد لله.
الحديث إذا اجتمعت فيه شروط الصحة، فإنه يحتج به ولا يرد ولا يستنكر، والمشهور في "الصحيح" أنه ما اجتمع فيه خمسة شروط:
1- عدالة جميع رواته .
2- تمام ضبط رواته لما يروون .
3- اتصال السند من أوله إلى منتهاه ، بحيث يكون كل راوٍ قد سمع الحديث ممن فوقه .
4- سلامة الحديث من الشذوذ في سنده ومتنه ، ومعنى الشذوذ : أن يخالف الراوي من هو أرجح منه .
5- سلامة الحديث من العلة في سنده ومتنه ، والعلة : سبب خفي يقدح في صحة الحديث ، يطّلع عليه الأئمة المتقنون .
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
" فالصحيح المجمع عليه:
ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين، من غير شذوذ ولا علة " انتهى. "المقنع" (1 / 42).
وينظر السؤال رقم (79163 ).
وقد تختل بعض هذه الشروط ، فيظهر في الحديث النكارة ، فيصفه النقاد بأنه "منكر".
والمنكر ضد المعروف، وهو الأمر الذي لا يقبله القلب ولا يعرفه.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" النون والكاف والراء – نكر -: أصل صحيح، يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه... والباب كله راجع إلى هذا " انتهى. "معجم مقاييس اللغة" (5 / 476).
وقد اشتهر إطلاق مصطلح "المنكر" على:
ما تفرد به الراوي الذي فيه نوع من الضعف، أو خالف فيه غيره ممن هو أقوى منه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وهو كالشاذ إن خالف راويه الثقات فمنكر مردود، وكذا إن لم يكن عدلا ضابطا، وإن لم يخالف، فمنكر مردود " انتهى. "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" (ص58).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" (و) إن وقعت المخالفة (مع الضعف ): فـ (الراجح) يقال له: (المعروف، ومقابله) يقال له: (المنكر).
مثاله: ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن حبيب - وهو أخو حمزة بن حبيب الزيات المقرئ -، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَحَجَّ، وَصَامَ، وَقَرَى الضَّيْفَ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ ).
قال أبو حاتم: هو منكر؛ لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا، وهو المعروف " انتهى. "نزهة النظر" (ص 129).
والأئمة النقاد يطلقون مصطلح "المنكر" على ما هو أعم من هذا؛ فيطلقونه على الحديث الذي يقع في قلوبهم أن راويه قد أخطأ أو وهم فيه ، ولم يضبطه ، إما لم يضبط إسناده ، أو لم يضبط متنه ، سواء كان ثقة أو ضعيفا، وذلك بقرائن تظهر لهم كتفرده بالخبر، أو مخالفته للثقات.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرِضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مستعمله... " انتهى. "مقدمة صحيح مسلم" (1 / 6).
وقال رحمه الله تعالى:
" والجهة الاخرى أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثا ، عن مثل الزهري أو غيره من الائمة ، بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الاسناد والمتن لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الاسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد وان كان حافظا، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينه ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم.
وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ وخطأ المحدثين في الروايات ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك إن شاء الله... " انتهى. "التمييز" (ص 172).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة ، بغير عاضد يعضده " انتهى. "النكت" (2 / 674).
والحكم بنكارة الخبر ليس له علامات خاصة مضبوطة يمكن حصرها، بل كل حديث منكر له قرائنه الخاصة التي تحف به فتدل على نكارته.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وأما أكثر الحفاظ المتقدمين ، فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد ، وإن لم يرو الثقات خلافه : أنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه ، كالزهري ونحوه.
وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً.
ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " انتهى. "شرح علل الترمذي" (2/ 582).
والسبيل لمعرفة نكارة الخبر من عدمه، هو بجمع طرق الخبر ودراستها والتمييز بينها.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" فبجمع هذه الروايات ، ومقابلة بعضها ببعض، تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ " انتهى. "التمييز" (ص 209).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" والسبيل إلى معرفة علة الحديث : أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " انتهى. "الجامع" (2 / 295).
وهذا الأمر لا يتيسر لكل أحد ، وإنما هو من مهام أهل العلم بالحديث وعلومه، وخاصة إذا كان الخبر ظاهر إسناده السلامة، فمثل هذا لا يكاد يعرف نكارته إلا الأئمة الحفاظ؛ لأن القدرة على معرفة جميع طرق الحديث واستحضارها ، أو القطع بعدم وجود متابع ، واستنكار الحديث بذلك؛ هذا لا يتم إلا لأمثال هؤلاء الأئمة الحفاظ الذين جمعوا في صدورهم الأحاديث بأسانيدها وطرقها، وعرفوا أحوال رواتها، ودرجاتهم في الحفظ والإتقان ومدى ملازمتهم لشيوخهم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
" حُذَّاق النقاد من الحفاظ ، لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم: لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك.
وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خُصُّوا بها عن سائر أهل العلم " انتهى. "شرح علل الترمذي" (2/ 861).
ومن ليس له معرفة خاصة بهذا العلم، وأصول صنعته، وطول ممارسة له: فلا يصح له أن يستنكر خبرا بمجرد هواه أو عقله، من غير رجوع إلى أهل المعرفة بالحديث وأئمته، فإن فعل ذلك فقد سلك سبيل أهل البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فإنهم – أئمة الحديث - أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها، بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا "علم علل الحديث"، وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عُرف إما بسبب ظاهر ...
والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم، ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث، أو في القطع بها، مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به... " انتهى. "مجموع الفتاوى" (13 / 352).
والله أعلم.
تعليق