الحمد لله.
أولا:
لعل السائل يقصد شرك اتباع الهوى، أي هوى النفس، كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا الفرقان/43 ، وقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ الجاثية/23 ، وقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ القصص/50.
واتباع الهوى ليس على منزلة واحدة ، فمنه ما يكون كفرا، أو شركا أكبر، أو أصغر، ومنه ما يكون كبيرة ، ومنه ما يكون صغيرة من الصغائر، ومنه ما يكون مباحا.
فإن اتبع هواه حتى قاده إلى تكذيب الرسول أو الاستهزاء به أو الإعراض عنه – كما هو واضح من سياق آيتي الفرقان والجاثية – فهذا مشرك شركا أكبر.
وهكذا كل من قاده الهوى إلى ارتكاب ما دلت الأدلة على أنه شرك أكبر أو كفر أكبر ، كدعاء الأموات ، أو جحد المعلوم بالضرورة ، أو استحلال الزنا أو الخمر .
قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية الجاثية (16/ 166): ” قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر؛ اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه.
وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئا وهويه: اتخذه إلها.
قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لأن البيت حجارة.
وقيل: المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده؛ تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل.
وقال الحسن بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، مجازه: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه” انتهى.
وإن اتبع هواه فراءى غيره بعمله، أو طلبه بعمله الصالح: زينة الحياة الدنيا، أو جعله سلما لها: فهو مشرك شركا أصغر .
وإن اتبع هواه ففعل بدعة غير مكفّرة: فهو مبتدع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” واتباع الهوى درجات:
فمنهم المشركون، والذين يعبدون من دون الله ما يستحسنون بلا علم ولا برهان، كما قال: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه}؛ أي يتخذ إلهه الذي يعبده، وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل إن هواه نفس إلهه، فليس كل من يهوى شيئا يعبده، فإن الهوى أقسام، بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يجب أن يُعبد، ولا عبد العبادة التي أُمر بها.
وهذه حال ” أهل البدع “؛ فإنهم عبدوا غير الله، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون الله بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم؛ فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها، من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فلو اتبع العلمَ والكتاب المنير، لم يعبد إلا الله، بما شاء [=الله]؛ لا بالحوادث والبدع” انتهى من “مجموع الفتاوى” (10/ 592).
وإن اتبع هواه ففعل كبيرة كالزنا من غير استحلال، أو ترك الفرائض، فهو فاسق .
وإن اتبع هواه ففعل صغيرة، فهو عاص غير فاسق .
قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: ” ليس كل طاعة للهوى شركا أكبر أو شركا أصغر، قد تكون طاعة الهوى معصية فقط” انتهى من أسئلة كشف الشبهات، الشريط الثالث.
وإن اتبع هواه فتكاسل عن فعل نافلة، أو عن قراءة ورده من القرآن: فقد فاته من الخير ما فاته، وإن كان لا يأثم بترك النافلة.
فاتباع الهوى يختلف حكمه بحسب ما قاد إليه، فإن قاد إلى شرك أكبر، فهو شرك أكبر، وإن قاد معصية فهو معصية، وهكذا.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (145466).
ثانيا:
كل خطيئة يرتكبها الإنسان: فهي تندرج تحت اتباع الهوى، ويمكن تسمية المعاصي شركا بالمعنى العام عند بعض العلماء؛ لأنها من اتباع الهوى، مع الحذر من الانحراف الغالي بهذه التسمية، حتى يبلغ بصاحبه إلى تكفير عصاة الموحدين، وإخراجهم من الدين.
قال الإمام البخاري، رحمه الله في “صحيحه” (1/15): ” بَابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}”. انتهى.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: ” ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك عَلَى كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله، أو خوفه، أو رجائه، أو التوكل عليه، أو العمل لأجله، كما ورد في الصحيح إطلاق الشرك عَلَى الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى التوكل عَلَى غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوَّى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت؛ وكذلك ما يقدح في التوكل وتفرّد الله بالنفع والضر: كالطيرة، والرُّقَى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يَقُولُونَ، وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادحٌ في تمام التوحيد وكماله.
ولهذا أطلق الشرع عَلَى كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النفس أنها كفر وشرك؛ كقتال المسلم، ومن أتى حائضًا أو امرأة في دبرها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرجه عن الملّة بالكلية.
ولهذا قال السَّلف: كُفر دون كفر، وشرك دون شرك.
وقد ورد إطلاق الإله عَلَى الهوى المتَّبع، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وقال الحسن: هو الَّذِي لا يهوى شيئًا إلا ركبه.
وقال قتادة: هو الَّذِي كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى…
ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ”.
فدل هذا عَلَى أن كل من أَحَبّ شيئًا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله؛ فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه.
ويدل عليه أيضاً أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصيةٍ عبادةً للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]. وقال حاكيًا عن خليله إبراهيم أنَّه قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].
فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته، فإنَّه يعبد الشيطان بطاعته له، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
فهم الذين حققوا قول: “لا إله إلا الله” وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إِلَى غير الله، محبةً ورجاءً وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول: “لا إله إلا الله” وهم عباد الله حقًّا.
فأما من قال: “لا إله إلا الله” بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله، ومخالفته، فقد كذب فعلُهُ قولَهُ، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
فيا هذا، كن عبد الله، لا عبد الهوى؛ فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار ” انتهى من “مجموع رسائل ابن رجب” (3/ 54).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “أما بالنسبة لجعل المعاصي كلها شركاً : فهذا نعم ، بالمعنى العام ؛ لأن المعاصي إنما تصدر عن هوى ، وقد سمى الله تعالى من اتبع هواه متخذاً له إلهاً ، فقال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ) الجاثية:23 .
إذاً عندنا ثلاثة أشياء:
الإطار العام : وهو أن كل معصية فهي نوعٌ من الشرك ؛ لأنها صادرة عن الهوى ، وقد جعل الله تعالى من اتخذ هواه إلهاً جعله متخذاً له إلهاً.
الثاني : الشرك إذا أطلق ، فهل نحمله على الشرك الأكبر أم الشرك الأصغر؟
نقول : ننظر إلى القواعد العامة في الشريعة ؛ إن اقتضى أن يكون خارجاً عن الإسلام فهو أكبر، وإلا فلا” انتهى من “لقاء الباب المفتوح” (192/ 13) .
والحاصل:
أن اتباع هوى النفس قد يكون شركا أكبر، أو أصغر أو بدعة أو كبيرة أو معصية، بحسب ما يقود إليه.
وأن المعاصي كلها يمكن أن تسمى شركا بالمعنى العام؛ لأنها تنتج عن اتباع الهوى، كما يدل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ رواه البخاري (2887).
والله أعلم.
تعليق