الحمد لله.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ( مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ ) رواه البخاري (5575) ، ومسلم (2003) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
ولفظة (مَنْ) شرطية تفيد العموم، فكل من شرب الخمر ومات غير تائب ، فهو معرض لهذا الوعيد .
وهذا الشارب له حالان:
الحالة الأولى: أن يكون عالما بحرمتها، لكنه مع ذلك يشربها مستحلا لها منكرا لتحريمها، فيكفر بهذا الاستحلال، فإن مات مصرا عليه، مات كافرا فلا يدخل الجنة ، ويلزم من هذا ألا يتنعم بشرابها مطلقا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وفصّل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا : فهو الذي لا يشربها أصلا؛ لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها " انتهى من "فتح الباري" (10 / 32 - 33).
وهذه الحالة لا إشكال فيها.
الحالة الثانية: أن يشربها المسلم وهو معتقد أنها حرام، فهذا هو محل الإشكال.
فذهب طائفة من أهل العلم، إلى أن هذا فيه وعيد بعدم دخول الجنة.
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( لم يشربها في الآخرة )، معناه لم يدخل الجنة؛ لأن شراب أهل الجنة خمر ؛ إلاّ أنه لا غول فيها ولا نزف" انتهى من "معالم السنن" (4 / 265).
وعمدة هذا القول أمران:
الأمر الأول: أن من دخل الجنة فإن له فيها ما تشتهيه الأنفس من النعيم، ومن ضمن ذلك خمر الجنة.
قال الله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الزخرف /69 - 71.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" في هذا الحديث دليل على تحريم الخمر، وعلى أن شربها من الكبائر؛ لأن هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة؛ لأن الله عز وجل أخبر أن الجنة: فيها أنهار من خمر لذة للشاربين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، والظاهر أن من دخل الجنة، لا بد له من شرب خمرها ... " انتهى من "التمهيد" (15 / 5 - 6).
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
" وفي قوله: ( حرمها في الآخرة )، وعيد بأنه لا يدخل الجنة، لأن شراب أهل الجنة خمر، إلا أنهم لا يصدعون عنها، ولا ينزفون، ومن دخل الجنة لا يحرم شرابها " انتهى من "شرح السنة" (11 / 355).
الأمر الثاني: أن منعه من شربها إذا دخل الجنة فيه نوع عقوبة، ولا عقوبة في الجنة؛ لأن دخولها يستلزم الغفران، ونيل رضوان الرحمن.
قال أبو المطرف القنازعي رحمه الله تعالى:
" وقيل أيضا: إن معنى هذا الحديث معنى الوعيد، وأنه يحرمها في وقت دون وقت، ولو كان يحرمها أبدا في الجنة، لكانت عقوبة شرب الخمر في الدنيا، تتبعه في الجنة، وكل من دخل الجنة فقد غفر الله جل وعز ذنوبه " انتهى من " تفسير الموطأ" (2 / 729).
وعلى القول بأن هذا وعيد بعدم دخول الجنة؛ فإنه محمول على عدم الدخول في وقت محدد، وليس عدم دخول الجنة أبدا ؛ بمعنى : أن دخوله الجنة قد يتأخر عن غيره من المؤمنين ، عقوبة له على هذه المعصية الكبيرة .
قال النووي رحمه الله تعالى:
" واعلم أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل الحق من السلف والخلف؛ أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا، على كل حال:
فإن كان سالما من المعاصي؛ كالصغير، والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك ، أو غيره من المعاصي ، إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يُبتل بمعصية أصلا ؛ فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ، ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها ، على الخلاف المعروف في الورود ، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط ، وهو منصوب على ظهر جهنم، أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه.
وأما من كانت له معصية كبيرة ، ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى؛ فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولا ، وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ، ولو عمل من أعمال البر ما عمل.
هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي " .
انتهى من "شرح صحيح مسلم" (1 / 217).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" قال علماؤنا، رحمة الله عليهم: قد ثبت بالدلائل القاطعة دخول العصاة الجنة بعد الاقتصاص منهم بالعذاب أو المغفرة، ومن دخل الجنة لم يمتنع عليه منها نعيم؛ فيكون معنى قوله: ( حَرِمَهَا فِي الآخِرَةِ ) : في الوقت الذي يجد فيه الظمأ ، ويطلب الراحة عند العذاب، أو عند انتظار المغفرة " انتهى من "القبس" (2 / 657).
وعلى هذا القول؛ فإن المسلم الذي يموت مدمنا على الخمر: معرَّض لحرمان مؤقت من خمر الجنة ، وليس على وجه التأبيد – والظاهر أن كلام ابن العربي يشير إلى أن ذلك يكون قبل دخوله الجنة .
والقول الثاني: أن الحديث على ظاهره؛ فمن شرب الخمر في الدنيا حرمها في الآخرة إذا دخل الجنة على وجه الدوام.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" فظاهر الحديث ، ومذهب نفر من الصحابة ومن أهل السنة : أنه لا يشرب الخمر فى الجنة. وكذلك لو لبس الحرير فى الدنيا ، لم يلبسه فى الجنة؛ وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ، ووعد به : فحرمه عند ميقاته " انتهى من "عارضة الأحوذي" (8 / 51).
ويدل لهذا القول بحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ مَاتَ
مِنْ أُمَّتِي وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَهُوَ يَتَحَلَّى الذَّهَبَ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ لِبَاسَهُ فِي الْجَنَّةِ ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (11 / 540)، وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10 / 32)، والألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2 / 468).
وأجابوا عن الأمور التي تمسك بها أهل القول الأول:
فأما قولهم: بأنّ عدم شربه الخمر في الجنة إذا دخلها معارض لقوله تعالى:
( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الزخرف /69 - 71.
فيجاب عنه؛ بأن الله يزيل من قلبه اشتهاء خمر الجنة، فلا يرغب فيها، وهذا هو وجه حرمانها.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" ولقائل أن يقول: لا يخلو هذا أن يشتهي الخمر في الجنة أو لا يشتهيها، فإن لم يشتهها لم يؤثر عنده فقدها، وإن اشتهاها ولم يعطها تأسف ، والأسف في الجنة لا يكون ؟
فالجواب: أنه لا يشتهيها ويصرف عن قلبه حبها وذكرها، لكنه قد فاتته لذة عظيمة ، كما تفوته منزلة الشهداء ومنازل الأنبياء، وكل ناقص ، بالإضافة إلى الكاملين ، قد رضي بحاله. وإنما نذكر هذا لننبه اليوم للاستدراك " انتهى من "كشف المشكل" (2 / 551 - 552).
وأما قولهم: بأن الحرمان نوع من العذاب والألم، والجنة دار السلام لا عذاب فيها ولا هم ولاحزن.
فأجابوا عنه : أن هذا الحرمان ليس من باب العذاب ، وإنما هو من باب نقص النعيم، ومن المعلوم أن أهل الجنة درجات ، ومن حرم المراتب العالية ، لا يحزنه ذلك في الجنة، بل يكون راضيا بما أكرمه الله تعالى، فمن هذا الباب يكون حرمان خمر الجنة.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله (حرمها في الآخرة )؛ ظاهره تأبيد التحريم ، وإن دخل الجنة فيشرب جميع أشربة الجنة من ماء وعسل ولبن، ولا يشرب الخمر .
ومع ذلك : فلا يتألم لعدم شُرْبها، ولا يتنغص من فقدها، ولا يحسد من يشربها، فإنَّ الجنة محل مطهَّر منزه عن ذلك كلّه.
وإنَّما يكون حال هذا ، مع فقد شُرب الخمر ، كحاله مع المنازل التي رفع بها غيره عليه ، مع علمه برفعتها، وبأن صاحبها أعلى منه درجة، وأفضل منه عند الله تعالى ؛ ومع ذلك فلا يحسده، ولا يتألم بفقد شيء من ذلك ، استغناء بالذي أُعطي، وغبطة به، ولأن الله تعالى قد طهرهم من كل نقص وصفة مذمومة. ألا ترى قوله تعالى : ونزعنا ما فى صدورهم من غلٍّ إخواننًا على سرر متقابلين ؟ وقال بهذا المعنى جماعة من العلماء " .
انتهى من "المفهم" (5 / 270).
وعلى هذا القول فإنه يحرم من الخمر على وجه التأبيد، وهذا أقرب إلى ظاهر الحديث ، وأجرى للوعيد الوارد فيه .
والله أعلم.
تعليق